للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد اعتمد هؤلاء على أصل شرعي ثابت بنصوص صريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضها أوامر عينية في حق المخاطبين بها، وهذا الأصل هو ترك القتال في القتنة.

وقد كان من كمال فقه الصحابة - رضي الله عنهم - التفريق بين صحة إمامة عليّ ووجوب القتال معه، بل صحة قتال أهل القبلة، إذ لا يلزم من كونه إماماً شرعياً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين صواباً بإطلاق.

وبالجملة فإن الكف عن القتال واعتزال الفتنة هو مذهب أهل الحديث عامة، ومن تأمله ظهر له قوة دلائله النصية وصدق نتائجه الواقعية.

إن النصوص الشرعية جاءت متواترة في رد عدوان الخوارج والمفسدين في الأرض. أما أن يكون المرء عبد الله المقتول لا عبد الله القاتل، فذلك مشروع في الفتنة بين المسلمين المختلفين اختلافاً اجتهادياً مصلحياً.

على أن هذا المذهب - أي مذهب اعتزال الفتنة - هو أقوى المذاهب وأرجحها بدلالة النصوص الشرعية وأقوال السلف الصالح، وهو أقوى من مذهب من يرى أن الصواب هو القتال مع علي - رضي الله عنه - فضلاً عمن يرى أن الصواب هو القتال مع من حاربه.

• لقد كان مصطلح القراء في بداية الإسلام يعني من يقرأ القرآن ويحفظه ويفقه معانيه، ويتدبر آياته، ويتأدب بأخلاقه، ثم ما لبث أن انحرف مفهوم القراء أو القراءة عن مدلوله الأصلي، فأخذ يكتسي طابعاً يسوده عدم الفقه، والأخذ بظواهر النصوص، والتصلب في الرأي، والغلو والتشدد في الدين، حتى إننا لا نستغرب عندما نجد في مصادرنا التاريخية والحديثية المبكرة، أن المقصود بالقراء، هم الذين ساهموا في تأليب الناس في الكوفة على الخليفة عثمان - رضي الله عنه - واشتركوا في معركة صفين فرفضوا التحكيم وصاروا خوارج فيما بعد يعيثون في الأرض فساداً يقتلون وينهبون أموال المسلمين، مستحلين لها، بزعم أن من خالفهم ليس بمسلم.

وقد جاءت الأحاديث النبوية في بيان حالهم، وما سيؤول إليه أمرهم من خروج على الأمة وسفك دمائها بغير حق، فحذرت منهم وأثنت على قتالهم.

• إن الدور المنسوب للقراء في صفين من مسؤولية وقف القتال والتحكيم، وفرض أبي موسى حكماً ليست إلا فرية تاريخية اخترعها الإخباريون عن الشيعة الذين كان يزعجهم أن يظهر علي - رضي الله عنه - بمظهر المتعاطف مع معاوية وأهل الشام، وأن يرغب في الصلح مع أعدائهم التقليدين.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يحملوا المسؤولية أعداءهم الخوارج ويتخلصوا منها، ويجعلوا دعوى الخوارج تناقض نفسها، فهم الذين أجبروا علياً على قبول التحكيم، وهم الذين ثاروا عليه بسبب قبوله التحكيم.

ومن الملاحظ أن الدوافع والأسباب خلف مثل هذه الرويات ترجع إلى الظروف التي كانت تعيشها الكوفة - وهي معقل الشيعة-، في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، فقد تحولت وأهلها إلى مصر تابع لأهل الشام يرسل لها الأمويون ولاة مستبدين مثل زياد وابنه عبيد الله والحجاج لقمع شوكتهم. وأصبحت الكوفة بذلك مركزاً للمعارضة ومفرخاً للثورات ضد الأمويين، ليس هذا فحسب، بل إن ضربات الخوارج الموجعة كانت أشد إيلاماً من قمع الأمويين، مما حدا الشيعة إلى إلقاء تبعة تلك الأحداث على خصومهم تحت تأثير التعصب المذهبي.

• إن الموقف الثابت تاريخياً في كتب الأئمة الثقات مثل البخاري وأحمد وابن أبي شيبة أن علياً - رضي الله عنه - قبل التحكيم من تلقاء نفسه بعيد عن أي ضعوط، وذلك تماشياً مع أحكام الإسلام التي تحث على إصلاح ذات البين والرجوع إلى الكتاب والسنة عند التنازع والاختلاف، كما ثبت أن موقف القراء هو نفسه منذ البداية لم يتغير ولم يتبدل، فهو الإصرار على مواصلة قتال أهل الشام ورفض التحكيم بالكلية.

<<  <  ج: ص:  >  >>