للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا ما تطمئن إليه النفس، حيث ينسجم ذلك الموقف مع عقلية الخوارج المتشددة المتحجرة العنيفة المستبيحة لدماء المسلمين وأموالهم، فقد كانوا في مراحل وجودهم على رأس الحركات التي أنهكت جسم الدولة الإسلامية، وذهبت بكثير من قوى المسلمين المذخورة.

• نظراً لما لحادث التحكيم من أهمية في التاريخ السياسي للدولة الإسلامية، فإنه من الضروري تجلية حقيقة وقائعه، حيث أسيء تصوير هذا الحادث بقدر ما أسيء تفسيره، فنتج عن الأمرين خلط كثير وإساءة إلى مكانة الصحابة وقدرهم، حيث باتت القصة الشائعة بين الناس عن حادث التحكيم تتهم بعضهم بالخداع والغفلة، وتتهم آخرين بالصراع حول السلطة.

وبإخضاع هذه الرواية للدراسة والتحليل يلاحظ عليها ثلاثة أمور: أحدها يتعلق بالخلاف بين عليّ ومعاوية - رضي الله عنهما - والذي أدى إلى الحرب بينهما، والثاني: يتعلق بمنصب كل ن عليّ ومعاوية، والثالث: خاص بشخصية أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص.

أما الأمر الأول: فإن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين عليّ ومعاوية، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء. فالخلاف حول الخلافة لم يكن قد نشأ عندئد، ولم يكن معاوية مدعياً للخلافة ولا منكراً حق عليّ فيها، وإنما كان ممتنعاً عن بيعته، حيث كان متغلباً عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون، مستفيداً من طاعة الناس له بعد اقتناعهم بالسبب الذي جعله يرفض بيعة عليّ، وهو المطالبة باقتضاء حقه في القصاص من قتلة عثمان باعتباره ولياً للدم.

فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية وهي ما طلب إليهما الحكم فيه واتخذا قراراً بشأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة عن التحكيم، فمعنى ذلك أنهما لم يفقها موضوع النزاع ولم يحيطا بموضوع الدعوى، وهو أمر مستبعد جداً.

الأمر الثاني: إذا تضمن قرار الحكمين فيما تزعم الرواية المذكورة عزل كل من عليّ ومعاوية، فقد ورد العزل في حق معاوية على غير محله، لأنه إذا تصورنا أن يعزل الحكمان علياً من منصب الخلافة إذا فرضنا جدلاً أنهما كانا يحكمان فيها، ولكن عم يعزلان معاوية؟ هل كانا يملكان عزله عن قرابته أو منعه من المطالبة لحقه فيها؟! وهل عهد التاريخ في حقبة من حقبه أن يعزل ثائر عن زعامة الثائرين معه بقرار يصدره قاضيان؟! ولا شك أن هذا عامل آخر يؤيد بطلان القصة الشائعة عن قضية التحكيم والقرار الصادر فيها.

الأمر الثالث: إن القول بأن أبا موسى الأشعري كان في قضية التحكيم ضحية خديعة عمرو بن العاص ينافي الحقائق التاريخية الثابتة عن فضله وفطنته وفقهه ودينه، والتي ثبتت له بتولي أعمال الحكم والقضاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي خلافة عمر وعثمان وعلي. فهل يتصور أن يثق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خلفاؤه من بعده في رجل يمكن أن تجوز عليه مثل الخدعة التي ترويها قصة التحكيم؟!.

هذا وقد شهد الصحابة وكثير من علماء التابعين لأبي موسى - - رضي الله عنه - بالرسوخ في العلم، والكفاءة في الحكم، والفطنة والكياسة في القضاء.

وقبول تلك الرواية يعني الحكم أيضاً على عمرو بن العاص بأنه كان في أداء مهمته رجلاً تسيره الأهواء فتطغى لا على فطنته وخبرته فحسب، بل على ورعه وتقواه أيضاً. هذا علاوة على ما نسب إليه وإلى أبي موسى من السب والشتم، وهو ما يتعارض مع ما عرف وتواتر عن الصحابة - رضي الله عنهم - من حسن الخلق وأدب الحديث.

<<  <  ج: ص:  >  >>