• أدى حادث التحكيم بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - إلى بدء ظهور الفرق ذات الآراء السياسية، ومن ضمنها فرقة الخوارج الذين رفضوا مبدأ قبول التحكيم في النزاع أصلاً، ذلك أنهم قالوا: (لا حكم إلا لله) مقررين أنه لا يجوز العدول عن حكم الله إلى حكم الرجال، والله قد حكم في الفئة الباغية بقتالها حتى تفيء إلى أمر الله.
وقد ظلت العبارة (لا حكم إلا لله) علماً على مذهب الخوارج على اختلاف فرقهم وتعددها. وتعددت تفسيرات هذه الفرق لهذا الشعار، فارتكب الخوارج بناء على فهمهم الخاطئ له وتأويلهم المتعسف للنصوص كثيراً من المنكرات وعاثوا في الأرض فساداً يقتلون وينهون أموال المسلمين مستحلين لها بزعم أن من خالفهم كافر، وهم سلف المكفرة في هذه الأمة إلى اليوم.
ومن الخصائص المميزة لفرق الخوارج الغلو والإفراط والشطط والتنطع، كما تميزت في منهجها الحركي بالاندفاع والتهور والثورية العمياء والقابلية السريعة للتمزق والاشتعال، فالجلافة طبعهم، وضيق الأفق سمتهم، ما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أعسرهما، وما صادفوا احتمالين إلا انحازوا لأبعدهما، وما رأوا طريقين إلا سلكوا أشقهما.
ولما كان الخوارج من ذلك الصنف البشري العنيد محدود الإدراك الذي يضيق أفقه أو علمه عن تفهم الخلاف فتثور نفسه لأتفه الأسباب ودونما تبصر في الدوافع والعواقب وتريث الحكم، فقد أعلنوا تكفيرهم للمجتمع المسلم بأجمعه، فأظهروا نقمتهم وسخطهم على الأطراف المخالفة لهم.
ومن مبادئهم أن الخروج على الحاكم الجائر فرض لا يحل تركه، فكل قادر يلزمه الخروج ولو كان وحده، وسواء ظن أن خروجه يؤدي إلى النتيجة المرجوة أم لا. وبهذا لا يشترطون عدداً ولا قدرة على تغيير المنكر. ومن أجل ذلك كان تاريخهم بشكل عام سلسلة من الثورات والحروب المتواصلة ميزتهم عن غيرهم من الفرق، وفي سبيلها أبيدوا أو كادوا أن يبادوا.
• ومن نتائج الفتنة ظهور الإرجاء، ومبعثه أنه كان في ثغور الجهاد وأطراف البلاد فئات من المسلمين تحارب الكفار وتفتح الأمصار، فلم تعلم عن سير الأمور شيئاً، فلما صدمتها فاجعة الفتنة أذهلها الألم عن التفكير، ووقاها بعد الشقة شر الخوض في الفتنة، ثم فوجئوا بما تلاها من أحداث فما استطاعوا أن يستبينوا رأياً فيتبعوه أو يرجحوا طرفاً فيوالوه، فآثروا مسالمة الفريقين المتقاتلين والركون إلى الحياد، فأبرؤوا أنفسهم من الوقوف مع أحد منهم أو عليه، وأرجؤوا أمر الجميع إلى الله، وهو الذي يتولى حسابهم، ومن ثم فهم داخلون تحت المشيئة.
فهم متناقضون لما عليه عامة الخوارج من تكفير الصحابة، وما عليه عامة الشيعة من الغلو في عليّ والحط من عثمان أو تكفيره، ومخالفون أيضاً لما عليه أهل السنة والجماعة في أمرهم.
ولا يخفى ما في موقفهم من شطط بإرجاء أمر عليّ وعثمان والشك في دخولهما الجنة، ومخالفة ما هو ثابت في النصوص الشرعية ومشهور لدى الأئمة بالإجماع عن فضل عثمان وعليّ - رضي الله عنهما - والشهادة لهما بالجنة. وهذا من أخطاء المرجئة وضلالاتهم.
وعلى كل حال سواء كان الإرجاء موقفاً ذاتياً ظهر بسبب الفتنة أو أنه انبثق من الفكر الخارجي ونبع عنه، فإن الإرجاء من حيث هو موقف نفسي يمكن أن يوجد في هذه الفتنة العمياء وما تلاها، لأن من سنن الاجتماع أن أي نزاع يشجر بين طائفتين أو جماعتين قد يفرز فئة ثالثة متأرجحة محايدة لأي سبب من أسباب الحياد. وليس هذا الحياد من قبل المرجئة إلا موقفاً سلبياً يليه التردد والشك في مآل الصحابة الذين شملتهم دائرة الفتنة.