أتكلم هكذا لأنني أجزم بأن من التهالك الفكري الرجوع بالعقل إلى الوراء في محاولة مناقشة قضايا محسومة قرآنيًّا بشكل قطعي, وذلك في دعوات نسمعها تتصاعد هنا وهناك مطالِبة بدراسة الفلسفة وتدريسها، بل إن هناك مشاريع قائمة الآن لإحياء الفلسفة في بلادنا, هذه الفلسفة التي قامت بدورها المشكور قبل ألفي عام ولم تعد الآن قادرة على أن تقدم للإنسانية أي شيء مفيد بعد أن استقلت عنها جميع العلوم التجريبية، إضافة إلى علم النفس والاجتماع والجغرافيا والتاريخ، ولم يبق في فنائها سوى القضايا المتعلقة باللاهوت وعالم الغيب، وهي قضايا يجب علينا التسليم بأنها قد انفصلت عنها منذ ألف وأربعمائة عام حين قدم القرآن أجوبة قاطعة لجميع مشكلاتها.
الوحي أيضًا يقدم منهجا متكاملًا للحياة يؤسسه على حقيقة أن الإنسان عبد لله اضطرارًا ويجب أن يكون عبدًا لله اختيارًا, والاستعباد هنا ليس تحكمًا إلهيًّا في الأفعال فقط, بل في الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة التي منها الفكر, فالفكر ينبغي أن يكون محدودًا بمساحة ما سكت الشرع عنه, وهذا أيضًا ينبغي ألا يتجاوز الفكر فيه قيود الشرع, فمثلًا حين نتحدث عن الانتماء القبلي, يجب علينا أن نستحضر أن الانتماء إلى القبيلة مباح شرعًا, وهذا قيدٌ ينبغي أن لا نتجاوزه للمطالبة بالقضاء على هذا الانتماء, كما نستحضر أن الانتماء القبلي على أساس من التفاضل في النسب محرم ونستحضر أن الطعن في الأحساب محرَّم وهو قيد آخر فلا يصح استهداف أي قبيلة من القبائل بذكر مثالبها, كما نستحضر أن كل تكتل على أساس يؤدي بالضّرر على النسيج الإسلامي للمجتمع محرم, فلا نطالب بأي تكتلات على أسس قبلية محضة ما لم يكن ذلك لدعم مثل إسلامية, حين نستحضر هذه الضوابط لا يبقى أمامنا إلا المحافظة على القبيلة باعتبارها وسيلة للتواصل الاجتماعي بين أبناء الأمة والقيام مع الفرد من أبنائها في المعونة على نوائب الحق وحسب, وهو نطاق ضيق جدًّا يجرد القبيلة من كل ما من شأنه أن يجعل منها قنبلة موقوتة تفجّر نفسها وتتحطم عليها كل المكاسب, وعليه فلا يقبل أي فكر قبلي لا يسير في نطاق هذا النطاق المحدود لدعم القبلية.
وقد اخترت هذا المثال لاعتقادي أن قليلا جدًّا من القراء سيختلف معي فيه، وإلا فالأمثلة كثيرة في مجالات التعليم والإعلام والتنمية والاقتصاد والخدمات والعمل والسياسة والسياحة والعلاقات الدولية والاجتماع والدعوة والفنون، وكل ما يتفرع عن هذه العناوين بل والبيئة والتصنيع أيضًا, كلها نطاقات شملها الوحي بالضبط والتحديد إما إجمالًا ككل ما يتعلق بالأنظمة, أو تفصيلًا ككل ما يتعلق بالفرد وعلاقته بالخالق والمخلوقين.
وهذا ما أعنيه بالشمول في خطاب الوحي, وهو شمول عرفناه باستقراء نصوص الوحي من الكتاب والسنة, يجعلنا الإيمان به نتحرى أن لا نجتهد في صياغة أي فكرة قبل أن نبحث عن الضوابط الشرعية لها أو للنوع الذي تندرج فيه.