والكلام صفة كمال فان من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم كما أن من يعلم ويقدر أكمل ممن لا يعلم ولا يقدر والذي يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته وقدرته وأكمل ممن يتكلم بغير مشيئته وقدرته إن كان ذلك معقولا. ويمكن تقريرها على أصول السلف بأن يقال إما أن يكون قادرا على الكلام أو غير قادر فان لم يكن قادرا فهو الأخرس وإن كان قادرا ولم يتكلم فهو الساكت. وأما الكلابية (متبوع الأشاعرة في هذه المسألة) فالكلام عندهم ليس بمقدور فلا يمكنهم أن يحتجوا بهذه فيقال هذه قد دلت على قدم الكلام لكن مدلولها قدم كلام معين بغير قدرته ومشيئته أم مدلولها أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته؟ والأول: قول الكلابية والثاني: قول السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة فيقال مدلولها الثاني لا الأول لأن إثبات كلام يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته غير معقول ولا معلوم والحكم على الشيء فرع عن تصوره فيقال للمحتج بها: لا أنت ولا أحد من العقلاء يتصور كلاما يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته فكيف تثبت بالدليل المعقول شيئا لا يعقل وأيضا فقولك: لو لم يتصف بالكلام لاتصف بالخرس والسكوت " إنما يعقل في الكلام بالحروف والأصوات فإن الحي إذا فقدها لم يكن متكلما فإما أن يكون قادرا على الكلام ولم يتكلم وهو الساكت وإما أن لا يكون قادرا عليه وهو الأخرس وأما ما يدعونه من الكلام النفساني فذاك لا يعقل أن من خلا عنه كان ساكتا أو أخرس فلا يدل بتقدير ثبوته على أن الخالي عنه يجب أن يكون ساكتا أو أخرس وأيضا فالكلام القديم النفساني الذي أثبتموه لم تثبتوا ما هو؟ بل ولا تصورتموه واثبات الشيء فرع تصوره فمن لم يتصور ما يثبته كيف يجوز أن يثبته ولهذاكان أبو سعيد بن كلاب رأس هذه الطائفة (يعني الأشاعرة) وإمامها في هذه المسألة لا يذكر في بيانها شيء يعقل بل يقول هو: معنى يناقض السكوت والخرس والسكوت والخرس إنما يتصوران إذا تصور الكلام فالساكت هو الساكت عن الكلام والأخرس هو العاجز عنه أو الذي حصلت له آفة في محل النطق تمنعه عن الكلام وحينئذ فلا يعرف الساكت والأخرس حتى يعرف الكلام ولا يعرف الكلام حتى يعرف الساكت والأخرس فتبين أنهم لم يتصوروا ما قالوه ولم يثبتوه بل هم في الكلام يشبهون النصارى في) الكلمة) وما قالوه في (الأقانيم) و (التثليث) و (الاتحاد) فانهم يقولون ما لا يتصورونه ولا يبينونه والرسل عليهم السلام إذا أخبروا بشيء ولم نتصوره وجب تصديقهم وأما ما يثبت بالعقل فلابد أن يتصوره القائل به وإلا كان قد تكلم بلا علم فالنصارى تتكلم بلا علم فكان كلامهم متناقضا ولم يحصل لهم قول معقول كذلك من تكلم في كلام الله تعالى بلا علم كان كلامه متناقضا ولم يحصل له قول يعقل ولهذا كان مما يشنع به على هؤلاء أنهم احتجوا في أصل دينهم ومعرفة حقيقة الكلام كلام الله وكلام جميع الخلق بقول شاعر نصراني يقال له الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقد قالت طائفة إن هذا ليس من شعره وبتقدير أن يكون من شعره فالحقائق العقلية أو مسمى لفظ الكلام الذي يتكلم به جميع بنى آدم لا يرجع فيه إلى قول ألف شاعر فاضل دع أن يكون شاعرا نصرانيا اسمه الأخطل ... " انتهى ملخصا من " مجموعة الفتاوى " (٦ / ٢٩٤ - ٢٩٧)