شهد النصف الأول من القرن التاسع عشر اضطرابات اجتماعية وتقلبات فكرية منوعة، فقد سقطت أنظمة وأوضاع دامت قروناً متوالية. وانهارت قواعد ومبادئ كانت تسد حاجات المجتمع وتلبي رغباته في مجالات كثيرة، ولم يعقب هدم الماضي الذي أوغل فيه عصر التنوير بناء جديد للحاضر والمستقبل، وظهر لكثير من المفكرين حقيقة أن الهدم قد يتم بوسائل وأفكار خاطئة تماماً، إلى درجة أنها لا تستطيع أن تبني شيئاً جديداً.
وكان الإنجاز الوحيد الذي استقطب الأذهان وبهر الأنظار هو التقدم العلمي في مجالات البحوث الطبيعية. إلا أنه مهما بلغ من العظمة لم يكن ليغطي القبائح والأمراض التي يعاني منها المجتمع الأوروبي المتناقض، والتي سببها تدهور وانحطاط القيم الاجتماعية بعد أن عجز الفلاسفة عن الإتيان ببديل لقيم الكنيسة الآخذة في الاضمحلال.
وتساءل كثير من زعماء الفكر: أليس في إمكان العقل البشري بعد تحريره من نير الكنيسة البغيض أن يحقق النجاح الذي ظفر به في مجالات الطبيعة فيبتكر ديناً وضعياً يوازي العلم الوضعي الذي استطاع أن يحل محل علم الكنيسة الميتافيزيقي.؟
وكان أبرز من أجاب على هذا السؤال عملياً، هو الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت رائد المدرسة الوضعية في الفكر والحياة، والذي يمثل التيار الأهوج الذي انبعث لمواجهة طغيان الكنيسة وحماقاتها.