هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْيَانِ الْمَدَنِيِّينَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الْمَدَنِيِّينَ التَّغْلِيظُ فِي التَّحْلِيلِ، قَالُوا: هُوَ عَمَلُهُمْ وَعَلَيْهِ اجْتِمَاعُ مَلَئِهِمْ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَقَدْ خَرَّجَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ: الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ، وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَغَيْرُهُمَا، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَقْدُ صَحِيحٌ، كَقَوْلِ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، قَالُوا: لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: أَكْرَهُهُ، وَالْكَرَاهَةُ الْمُطْلَقَةُ مِنْهُ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ، أَوْ التَّنْزِيهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ، وَجَعَلَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِيِّ، وَطَائِفَةٌ مَعَهُمَا الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: الْبُطْلَانُ كَمَا نَقَلَهُ حَنْبَلٌ، وَغَيْرُهُ.
وَالثَّانِيَةُ: الصِّحَّةُ، لِأَنَّ حَرْبًا نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَهُ، فَظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْبَنَّاءِ إلَّا هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَقَطَعَ عَنْ أَحْمَدَ بِالْكَرَاهَةِ مَعَ الصِّحَّةِ.
وَهَذَا التَّخْرِيجُ ضَعِيفٌ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَرَاهَةَ الَّتِي نَقَلَهَا حَرْبٌ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ، وَفِي نَفْسِهِ طَلَاقُهَا فَكَرِهَهُ، وَهَذَا لَيْسَ فِي نِيَّةِ التَّحْلِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي نِيَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ بَيِّنٌ فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ إعَادَتُهَا إلَى الْمُطَلِّقِ، وَالْمُسْتَمْتِعُ لَهُ رَغْبَةٌ فِي النِّكَاحِ إلَى مُدَّةٍ، وَلِهَذَا أُبِيحَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ حُرِّمَ وَلَمْ يُبَحْ التَّحْلِيلُ قَطُّ.
وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: أَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، كَالرَّجُلِ يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ السَّفَرِ، فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَاتَّبَعَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مَعَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ نِيَّةَ التَّحْلِيلِ تُبْطِلُ النِّكَاحَ، لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ هَذَا النِّكَاحِ، وَقَالَ: هُوَ مُتْعَةٌ، فَعُلِمَ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ. عَامَّةُ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ.
فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّنْزِيهَ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَمِمَّنْ حَرَّمَهُ الْأَوْزَاعِيُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute