فلما انتهى إلى هذه المعرفة، ووقف على أن الفلك بجملته وما يحتوي عليه، كشيء واحد متصل بعضه ببعض، وأن جميع الأجسام التي كان ينظر فيها أولاً: كالأرض والماء والهواء والنبات والحيوان وما شاكلها، هي كلها في ضمنه وغير خارجة عنه، وأنه كله أشبه شيء بشخص من أشخاص الحيوان؛ وما فيه من الكواكب المنيرة هي بمنزلة حواس الحيوان؛ وما فيه من ضروب الأفلاك، المتصل بعضها ببعض، هي بمنزلة أعضاء الحيوان؛ وما في داخله من الكون والفساد هي بمنزلة ما في جوف الحيوان من أصناف الفضول والرطوبات، التي كثيراً ما يتكون فيها أيضاً حيوان، كما يتكون في العالم الأكبر.
فلما تبين له أنه كله كشخص واحد في الحقيقة، واتحدت عنده أجزاؤه الكثيرة بنوع من النظر الذي اتحدت به عنده الأجسام التي في عالم الكون والفساد، تفكر في العالم بجملته، هل هو شيء حدث بعد إن لم يكن، وخرج إلى الوجود بعد العدم؟ أو هو أمر كان موجوداً فيما سلف، ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه؟ فتشك في ذلك ولم يترجح عنده أحد الحكمين على الآخر.
وذلك أنه كان إذا أزمع على اعتقاد القدم، اعترضه عوارض كثيرة، من استحالة وجود ما لا نهاية له، بمثل الذي استحال عنده به وجود جسم لا نهاية وكذلك أيضاً كان يرى أن هذا الوجود لا يخلو من الحوادث، فهو لا يمكن تقدمه عليها، وما لا يمكن أن يتقدم على الحوادث، فهو أيضاً محدث.
وإذا أزمع على اعتقاد الحدوث، اعترضته عوارض أخرى، وذلك أنه كان يرى أن معنى حدوثه، بعد أن لم يكن لا يفهم إلا على أن الزمان تقدمه، والزمان من جملة العالم وغير منفك عنه، فإذن لا يفهم تأخر العالم عن الزمان.
وكذلك أيضاً كان يقول: إذا كان حادثاً، فلا بد له من محدث؛ وهذا المحدث الذي أحدثه، لم أحدثه الآن ولم يحدثه قبل ذلك، الطارئ طرأ عليه ولا شيء هناك غيره، أم لتغير حدث في ذاته؟ فان كان فما الذي احدث ذلك التغيير؟ وما زال يتفكر في ذلك عدة سنين.
فتتعارض عنده الحجج، ولا يترجح عنده أحد الاعتقادين على الآخر.
فلما أعياه ذلك، جعل يتفكر ما الذي يلزم عن كل واحد من الاعتقادين، فلعل اللازم عنهما يكون شيئاً واحداً.
فرأى انه إن اعتقد حدوث العالم خروجه إلى الوجود بعد العدم، فاللازم عن ذلك ضرورة، انه لا يمكن أن يخرج إلى الوجود بنفسه، وانه لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود، وان ذلك الفاعل لا يمكن إن يدرك بشيء من الحواس، لانه لو أدرك بشيء من الحواس لكان جسماً من الأجسام، ولو كان جسماً من الأجسام لكان من جملة العالم، وكان حادثاً واحتاج إلى محدث، ولو كان ذلك المحدث الثاني أيضاً جسماً، لحتاج إلى محدث ثالث، والثالث إلى رابع، ويتسلسل ذلك إلى غير نهايةً وهو باطل.
فإذن لابد للعالم من فاعل ليس بجسم، وإذا لم يكن جسماً فليس إلى إدراكه لشيء من الحواس سبيل، الآن الحواس الخمس لا تدرك إلا الأجسام، وإذا لا يمكن أن يحس فلا يمكن أن يتخيل، لان التخيل ليس شيئاً إلا إحضار صور المحسوسات بعد غيبتها، وإذا لم يكن جسماً فصفات الأجسام كلها تستحيل عليه، وأول صفات الأجسام هو الامتداد في الطول والعرض والعمق، وهو منزه عن ذلك، وعن جميع ما يتبع هذا الوصف من صفات الأجسام.
وإذا كان فاعلاً للعالم فهو لا محالة قادر عليه وعالم به "بسم الله الرحمن الرحيم" إلا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؟ صدق الله العظيم.
وراى أيضاً انه إن اعتقد قدم العالم، وان العدم لم يسبقه، وانه لم يزل كما هو، فان اللازم عن ذلك أن حركته قديمة لا نهاية لها من جهة الابتداء، إذ لم يسبقها سكون يكون مبدؤها منه، وكل حركة فلابد لها من محرك ضرورة، والمحرك أما أن يكون قوة سارية في جسم من الأجسام - أما جسم المتحرك نفسه، واما جسم أخر خارج عنه - واما أن تكون قوة ليست سارية ولا شائعة قي جسم.
وكل قوى سارية في جسم وشائعه فيه، فانها تنقسم بانقسامه، وتتضاعف بتضاعفه، مثل الثقل بالحجر مثلاً.
المحرك إلى الأسفل.
فانه إن قسم الحجر نصفين.
وان زيد عليه أخر مثله، زاد في الثقل أخر مثله، فان أمكن أن يتزايد الحجر إلى غير نهاية، كتزايد هذا الثقل إلى غير نهاية، وان وصل الحجر إلى حد ما من العظم ووقف، وصل الثقل إلى ذلك الحد ووقف، لكنه قد تبرهن أن كل جسم فانه لا محالة متناه، فإذن كل قوة في الجسم فهي لا محالة متناهية.