فلما ثبت له أن ذاته الحقيقة لا يمكن فسادها، أراد إن يعلم كيف يكون حالها إذا اطرح البدن وتخلت عنه، وقد كان تبين له أنها لا تطرحه إلا إذا لم يصلح آلة لها، فتصفح جميع القوى المدركة، فرأى أن كل واحدة منها تارةً تكون مدركة بالقوة، وتارةً تكون مدرة بالفعل: مثل العين في حال تغميضها أو أعراضها عن البصر، فانها تكون مدركة بالقوة - ومعنى مدركه بالقوة أنها لا تدرك الآن وتدرك في المستقبل - وفي حال فتحها واستقبالها للمبصر، تكون مدركه بالفعل - ومعنى مدركة بالفعل أنها الآن تدرك - وكذلك كل واحدة من هذه القوى تكون مدركة بالقوة وتكون مدركة بالفعل، وكل واحدة من هذه القوى إن كانت لم تدرك قط بالفعل، فهي ما دامت بالقوة لا تتشوق إلى إدراك الشيء المخصوص بها لأنها لم تتعرف به بعد، مثل من خلق مكفوف البصر؛ وان كانت قد أدركت بالفعل تارةً، ثم صارت بالقوة، فانها ما دامت بالقوة تشتاق إلى الإدراك بالفعل لأنها قد تعرفت إلى المدرك، وتعلقت به، وحنت إليه، مثل من كان يصيراً ثم عمي فانه لا يزال يشتاق إلى المبصرات.
وبحسب ما يكون الشيء المدرك أتم وأبهى وأحسن، يكون الشوق أكثر؛ والتألم لفقده اعظم، ولذلك كان تألم من يفقد بصره بعد الرؤية أعظم من تألم من يفقد شمه، إذ الأشياء التي يدركها البصر أتم وأحسن من التي يدركها الشم، فان كان في الأشياء شيء لا نهاية لكماله، ولا غاية لحسنه وجماله وبهائه، وهو فوق الكمال والبهاء والجمال، وليس في الوجود كمال، ولا حسن، ولا بهاء، ولا جمال إلا صادر من جهته، وفائض من قبله، فمن فقد إدراك ذلك الشيء بعد إن تعرف به، فلا محالة أنهما ما دام فاقد له، يكون في ألام لا نهاية لها، كما أن من كان مدركاً له على الدوام، فانه يكون في لذة لا انفصام لها، وغبطة لا غاية لها ورائها، وبهجة وسرور لا نهاية لهما.
وقد تبين له أن الموجود الواجب الوجود.
متصف بأوصاف الكمال كلها، ومنزه عن الصفات النقص وبريء منها.
وتبين له أن الشيء الذي به يتوصل إلى أدركه أمر لا يشبه الأجسام، ولا يفسد لفسادها؛ فظهر له بذلك أن من كانت له مثل هذه الذات، المعدة لمثل هذا الإدراك؛ فانه إذا أطرح البدن بالموت؛ فإما أن يكون قبل ذلك - في مدة تصريفه للبدن - لم يتعرف قط بهذا الموجود الواجب الوجود؛ ولا اتصل به؛ ولا سمع عنه؛ فهذا إذا فارق البدن لا يشتاق إلى ذلك الموجود ولا يتألم لفقده.
واما جميع القوى الجسمانية، فانها تبطل ببطلان الجسم؛ فلا تشتاق أيضاً إلى مقتضيات تلك القوى، ولا تحن إليها، ولا تتألم لفقدها.
وهذه حال البهائم غير الناطقة كلها: سواء كانت من صورة الإنسان أو لم تكن.
واما إن يكون قبل ذلك - في مدة تصريفه للبدن - قد تعرف بهذا الموجود، وعلم ما هو عليه من الكمال والعظمة والسلطان والحسن إلا انه أعرض عنه واتبع هواه، حتى وافته منيته وهو على تلك الحال، فيحرم المشاهدة، وعنده الشوق إليها فيبقى في عذاب طويل، وألام لا نهاية لها.
فأما من يتخلص من تلك الآلام بعد جهد طويل، ويشاهد ما تشوق إليه قبل ذلك، واما أن يبقى في آلامه بقاءً سرمدياً، بحسب استعداده لكل واحد من الوجهين لحياته الجسمانية.
واما من تعرف بهذا الموجود الواجب الوجود، قبل أن يفارق البدن، واقبل بكليته عليه والتزم الفكرة في جلاله وحسن بهائه، ولم يعرض عنه حتى وافته منيته، وهذا على حال من الإقبال والمشاهدة بالفعل.
فهذا إذا فارق البدن بقي في لذة لا نهاية لها، وغبطة وسرور وفرح دائم، لاتصال مشاهدته لذلك الموجود الواجب الوجود، وسلامة تلك المشاهدة من الكدر والشوائب؛ ويزول عنه ما تقتضيه هذه القوى الجسمانية من الأمور الحسية التي هي - بالإضافة إلى تلك الحال - ألام وشرور وعوائق.
فلما تبين له أن كمال ذاته ولذتها إنما هو بمشاهدة ذلك الموجود الواجب الوجود على الدوام، مشاهدة بالفعل أبداً، حتى لا يعرض عنه طرفة عين لكي توافيه منيته، وهو في حال المشاهدة بالفعل، فتتصل لذته دون أن يتخللها ألم.