فاتجهت عنده الأعمال التي يجب عليه أن يفعلها نحو ثلاثة أغراض: أما عمل يتشبه بالحيوان الغير الناطق.
واما عمل يتشبه به بالأجسام السماوية.
واما عمل يتشبه به بالموجود الواجب الوجود.
فالتشبه الأول: يجب عليه من حيث البدن المظلم ذو الأعضاء المنقسمة، والقوى المختلفة، والمنازع المتفننة.
والتشبه الثاني: يجب عليه من حيث له الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، وهو مبدأ لسائر البدن، ولما فيه من القوى.
والتشبه الثالث: يجب عليه من حيث هو، أي: من حيث هو الذات التي بها عرف ذلك الموجود الواجب الوجود.
وكان أولاً قد وقف على أن سعادته وفوزه من الشقاء، إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، حتى يكون بحيث لا يعرض بطرفة عين.
ثم أنه نظر بالوجه الذي يتأتى له به هذا الدوام، فأخر له النظر أنه يجب عليه الاعتمال في هذه الأقسام الثلاثة من التشبيهات: آما التشبه الأول، فلا يحصل له به شيء من هذه المشاهدة، بل هو صارف عنها وعائق دونها، إذ هو تصرف في الأمور المحسوسة، والأمور المحسوسة كلها حجب معترضة دون تلك المشاهدة؛ وانما احتيج إلى هذا التشبه لاستدامة هذا الروح الحيواني الذي يحصل به التشبه الثاني بالأجسام السماوية.
فالضرورة تدعو إليه من هذا الطريق، ولو كان لا يخلو من تلك المضرة.
واما التشبه الثاني، فيحصل له به حظ عظيم من المشاهدة على الدوام، لكنها مشاهدة يخالطها شوب؛ اذ من يشاهد ذلك النحو من المشاهدة على الدوام فهو مع تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليه حسبما يتبين بعد هذا.
واما التشبه الثالث، فتحصل به المشاهدة الصرفة، والاستغراق المحض الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه الا إلى الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه وفنيت وتلاشت.
وكذلك سائر الذوات، كثيرة كانت أو قليلة، إلا ذات الواحد الحق الواجب الوجود - جل وتعالى وعز.
فلما تبين له أن مطلوبه الأقصى هو هذا التشبه الثالث، وأنه لا يحصل له إلا بعد التمرن والاعتمال مدة طويلة في التشبه الثاني، وان هذه المدة لا تدوم له بالتشبه الأول، وعلم أن التشبه الأول - وان كان ضرورياً، فانه عائق بذاته وان كان معيناً بالعرض لا بالذات لكنه ضروري- فألزم نفسه أن لا يجعل لها حظاً من هذا التشبه الأول، إلا بقدر الضرورة، وهي الكفاية التي لا بقاء للروح الحيواني بأقل منها.
ووجد ما تدعو إليه الضرورة في بقاء هذا الروح أمرين: أحدهما: ما يمده من الداخل، ويخلف عليه بدل ما يتخلل منه وهو الغذاء.
والأخر: ما يقيه من الخارج، ويدفع عنه وجوه الأذى: من البرد والحر والمطر ولفح الشمس والحيوانات المؤذية ونحو ذلك.
ورأى أنه إن تناول ضرورية من هذه جزافاً كيفما اتفق، ربما وقع في السرف واخذ فوق الكفاية.
فكان سعيه على نفسه من حيث لا يشعر، فرأى أن الحزم له أن يفرض لنفسه فيها حدوداً لا يتعداها، ومقادير لا يتجاوزها، وبأن له الفرض يجب أن يكون في جنس ما يتغذى به.
وأي شيء يكون وفي مقداره وفي المدة التي تكون بين العبادات إليه.
فنظر أولاً إلى أجناس ما به يتغذى، فرآها ثلاثة أضرب: أولاً: أما نبات لم يكمل بعد نضجه ولم ينته إلى غاية تمامه، وهي أصناف البقول الرطبة التي يمكن الاغتذاء بها.
ثانياً: واما ثمرات النبات الذي تم وانتهى وأخرج بذرة ليتكون منه أخر من نوعه حفظاً له، وهي أصناف الفواكه رطبها ويابسها.
ثالثاً: واما حيوان من الحيوانات التي يتغذى بها: أما البرية واما البحرية.
وكان قد صح عنده أن هذه الأجناس كلها، من فعل ذلك الموجود الواجب الوجود الذي تبين له أن سعادته في القرب منه، وطلب التشبه به، ولا محالة أن الاغتذاء بها مما يقطعها عن كمالها ويحول بينها وبين الغاية القصوى المقصودة بها.
فكان ذلك اعتراض على فعل الفاعل.
وهذا الاعتراض مضاد لما يطلبه من القرب منه والتشبه به.
فرأى أن الصواب كان له لو أمكن أن يمتنع عن الغذاء جملة واحدة، لكنه لما لم يمكنه ذلك، لانه أن امتنع عنه أل ذلك إلى فساد جسمه، فيكون ذلك اعتراضاً على فاعله أشد من الأول، إذ هو أشرف من تلك الأشياء الآخر التي يكون فسادها سبباً لبقائه.