واستغرق في حالته هذه وشاهد ما لا عين رأت ولا إذن سمعت! ولا خطر على قلب بشر.
فلا تعلق قلبك بوصف آمر لم يخطر على قلب بشر، فان كثيراً من الأمور التي تخطر على قلوب البشر قد يتعذر وصفه، فكيف بأمر لا سبيل إلى خطورة على القلب، ولا هو من عالمه ولا من طوره!؟ ولست أعني بالقلب جسم القلب، ولا الروح التي في تجويفه بل أعني صورة تلك الروح الفائضة بقواها على بدن الإنسان، فان كل واحد من هذه الثلاثة قد يقال له قلب ولكن لا سبيل لخطور ذلك الآمر على واحد من هذه الثلاثة، ولا يتأتى التعبير إلا عما الخطر علها.
ومن رام التعبير عن تلك الحال، فقد رام مستحيلاً وهو بمنزلة من يريد أن يذوق الألوان من حيث هي الألوان، ويطلب أن يكون السواد مثلاً حلواً أو حامضاً.
لكنا، مع ذلك، لا نخيلك عن إشارات نومئ بها إلى ما شاهده من عجائب ذلك المقام، على سبيل ضرب المثل، لا على سبيل قرع باب الحقيقية.
إذ لا سبيل إلى التحقق بما في ذلك المقام إلا بالوصول إليه.
فأصغ الآن بسمع قلبك، وحدق ييصر إلى ما أشير به اليك لعلك أن تجد منه هدياً يلقيك على جادة الطريق! وشرطي عليك أن لا تطلب مني في هذا الوقت مزيد بيان بالمشافهة على ما أودعه هذه الاوراق فان المجال ضيق، والتحكم بالألفاظ على آمر ليس من شأنه أن يلفظ به خطر.
فأقول: انه لما فني عن ذاتهوعن جميع وعن جميع الذوات ولم ير في الوجود إلا الواحد القيوم، وشاهد ما شاهد، ثم عاد إلى ملاحظة الاغيار عندما آفاق من حالة تلك التي شبيه بالسكر، خطر بباله انه لا ذات له يغاير بها ذات الحق تعالى، وان حقيقة ذاته هي ذات الحق، وان الشيء الذي كان يظن أولاً انه ذات المغايرة لذات الحق، ليس شيئاً في الحقيقة، بل ليس ثم شيء إلا ذات الحق، وان ذلك بمنزلة نور الشمس الذي يقع على الأجسام الكثيفة فتراه يظهر فيها.
فانه وان نسب إلى الجسم الذي يظهر فيه، فليس هو في الحقيقية شيئاً سوى نور الشمس.
وان زال ذلك الجسم زال نوره، وبقي نور الشمس بحاله لم ينقص عند حضور ذلك الجسم ولم يزد عند مغيبه.
ومتى حدث جسم يصلح لقبول ذلك النور، قبله، فإذا عدم الجسم عدم ذلك القبول، ولك يكن له معنى، عنده هذا الظن بما قد بان له من إن ذات الحق، عز وجل، لا تتكثر بوجهه من الوجوه، وأن علمه بذاته، وهو ذاته بعينها.
فلزم عنده من هذا أن حصل عنده العلم بذاته، فقد حصلت عنده ذاته، وقد كان حصل عنده العلم فحصلت عنده الذات.
وهذه الذات لا تحصل إلا عند ذاتها، ونفس حصولها هو الذات؛ فإذن هو الذات بعينها.
وكذلك جميع الذوات المفارقة للمادة العارفة بتلك الذات الحقه التي كان يراها أولاً كثيرة، وصارت عنده بهذا الظن شيئاً واحداً.
وكادت هذه الشبه ترسخ في نفسه لولا أن تداركه الله برحمته وتلافاه بهدايته، فعلم إن الشبهة انما ثارت عنده من بقايا ظلمة الأجسام، وكدورة المحسوسات.
فان الكثير والقليل والواحد والوحدة، والجمع والاجتماع، والافتراق، هي كلها من صفات الأجسام، وتلك الذوات المفارقة العارفة بذات الحق، عز وجل، لبرائتها عن المادة، لا يجب إن يقال انها كثيرة، ولا واحدة، لان الكثرة انما هي مغايرة الذوات بعضها لبعض، والوحدة أيضاً لا تكون إلا بالاتصال.
ولا يفهم شيء من ذلك إلا في المعاني المركبة المتلبسة بالمادة.
غير إن العبارة في هذا الموضع قد تضيق جداً لانك إن عبرت عن تلك الذوات المفارقة بصيغة الجمع حسب لفظنا هذا، أوهم ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن الكثرة.
وان أنت عبرت بصيغة الإفراد، اوهم ذلك معنى الاتحاد، وهو مستحيل عليها.
وكأني بمن يقف على هذا الموضع من الخفافيش الذين تظلم الشمس في أعينهم يتحرك في سلسلة جنونه، ويقول: لقد افرطت في تدقيقك حتى انك قد انخلعت عن غريزة العقلاء، واطرحت حكم معقول، فان من أحكام العقل إن الشيء آما واحد واما كثير، فليتئد في غلوائه، وليكف من غرب لسانه وليتهم نفسه، وليعتبر بالعالم المحسوس الخسيس الذي هو أطباقه بنحو ما اعتبر به حي بن يقظان حيث كان بنظر فيه بنظر فيراه كثيراً كثرة لا تنحصر ولا تدخل تحت حد، ثم ينظر فيه بنظر آخر، فيراه واحداً.
وبقي في ذلك متردداً ولم يكنه إن يقطع بأحد الوصفين دون الآخر.