فلما ثبت في نفسه أمثلة الأشياء بعد مغيبها عن مشاهدته، حدث له نزوغ إلى بعضها؛ وكراهية لبعض.
وكان في ذلك كله ينظر إلى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالاوبار والأشعار وأنواع الريش، وكان يرى ما لها من العدو وقوة البطش، وما لها من الأسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها، مثل القرون والأنياب والحوافر والصياصي والمخالب.
ثم يرجع إلى نفسه، فيرى ما به من العري وعدم السلاح، وضعف العدو، وقلة البطش، عندما كانت تنازعه الوحوش أكل الثمرات، وتستبد بها دونه، وتغلبه عليها، فلا يستطيع المدافعة عن نفسه، ولا الفرار عن شيء منها.
وكان يرى أترابه من أولاد الظباء، قد تبتت لها قرون، بعد أن لم تكن، وصارت قوية بعد ضعفها في العدو.
ولم ير لنفسه شيئاً من ذلك فكان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه.
وكان ينظر إلى ذوي العاهات والخلق الناقص فلا يجد لنفسه شبيهاً فيهم.
وكان أيضاً ينظر إلى مخارج الفضول من سائر الحيوانات، فيراها مستورة: أما مخرج أغلظ الفضلتين فبالاذناب، وأما مخرج وأما مخرج أرقهما فبالاوبار وما أشبههما.
ولأنها كانت أيضاً اخفى قضباناً منه.
فكان ذلك ما يكربه ويسؤه.
فلما طال همه في ذلك كله، وهو قد قارب سبعة اعوام، ويئس من أن يكمل له ما قد أضر به نقصه، اتخذ من أوراق الشجر العريضة شيئاً جعل بعضه خلفه وبعضه قدمه، وعمل من الخوض والحلفاء شبه حزام على وسطه، علق به تلك الأوراق فلم يلبث إلا يسيراً حتى ذوى ذلك الورق وجف وتساقط.
فما زال يتخذ غيره ويخصف بعضه ببعض طاقات مضاعفة، وربما كان ذلك أطول لبقائه إلا انه على كل حال قصير المدة.
واتخذ من أغصان الشجر عصياً وسوى أطرافها وعدل متنها.
وكان بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها، ويقاوم القوي منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نباله، ورأى أن ليده فضلاً كثيراً على أيديها: إذ أمكن له بها ستر عورته واتخاذ العصي التي يدافع بها عن حوزته، ما استغنى به عما أراده من الذنب والعذاب الطبيعي.
وفي خلال ذلك ترعرع واربى على السبع سنين، وطال به العناء في تجديد الأوراق التي كان يستتر بها.
فكانت نفسه عند ذلك تنازعه إلى اتخاذ ذنب من ذنوب الوحوش الميتة ليعلقه على نفسه، إلا أنه كان يرى أحياء الوحوش تتحامى ميتها وتفر عنه فلا يتأتى له الأقدام على ذلك الفعل، إلى أن صادف في الأيام نسراً ميتاً فهدي إلى نيل أمله منه، واغتنم الفرصة في، إذ لم ير للوحوش عنه نفرةً فأقدم عليه، وقطع جناحيه وذنبه صحاحاً كما هي، وفتح ريشها وسواها، وسلخ عنه سائر جلده، وفصله على قطعتين: ربط إحداهما على ظهره، وأخرى على سرته وما تحتها، وعلق الذنب من خلفه، وعلق الجناحين على عضديه، فأكسبه ذلك ستراً ودفئاً ومهابة في نفوس جميع الوحوش، حتى كانت لا تنازعه ولا تعارضه.
فصار لايدنو إليه شيء منها سوى الظبية التي كانت أرضعته وربته: فانها لم تفارقه ولا فارقها، إلى أن اسنت وضعغت، فكان يرتاد بها المراعي الخصبة ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمها.
ومازل الهزل والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها.
فلما رأها الصبي على تلك الحالة، جزع جزعاً شديداً، وكادت نفسه تفيض أسفاً عليها.
فكان يناديها بالصوت الذي كانت عادتها أن تجيبه عند سماعه، ويصيح بأشد ما يقدر عليه، فلا لها عند ذلك حركة ولا تغييراً.
فكان ينظر إلى أذنيها والى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بشيء منها آفة.
فكان يطمع إن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع إلى ما كانت عليه فلم ياتت له شيء من ذلك ولا استطاعة.
وكان الذي أرشده لهذا الرأي ما كان قد اعتبره في نفسه قبل ذلك: لانه كان يرى انه إذا غمض عينيه أو حجبهما بشيء لا يبصر حتى نزول ذلك العائق، وكذلك كان يرى انه اذا ادخل إصبعه في أذنيه وسدها لا يسمع شيئاً حتى يزول ذلك العارض، وإذا امسك أنفه بيده لا يشم شيئاً من الروائح حتى يفتح أنفه.
فاعتقد من اجل ذلك إن جميع ماله من الادراكات والأفعال قد تكون لها عوائق تعوقها، فإذا أزيلت العوائق عادت الأفعال.