ولا شك أنه لم ينعقد حتى صار الجسد كله إلى هذا الحال - إذ كان قد شاهد الدماء متى سالت وخرجت انعقدت وجمدت ولم يكن هذا إلا دماً كسائر الدماء - وأنا أرى أن هذا الدم موجود في سائر الأعضاء لا يختص به عضو دون أخر، وأنا ليس مطلوبي شيئاً بهذه الصفة إنما مطلوبي الشيء الذي يختص به هذا الموضع الذي أجدني لا أستغني عنه طرفة العين، واليه كان انبعاثي من أول.
واما هذا الدم فكم مرة جرحتني الوحوش في المحاربة فسال مني كثير منه فما ضرني ذلك ولا افقدني شيئاً من أفعالي، فهذا بيت ليس فيه مطلوبي.
وأما هذا البيت الأيسر فأراه خالياً لاشيء فيه، وما أرى ذلك لباطل، فاني رأيت كل عضو من الأعضاء إنما لفعل يختص به، فكيف يكون هذا البيت على ما شاهدت من شرفه باطلاً؟ ما أرى إلا أن مطلوبي كان فيه! فارتحل عنه وأخلاه.
وعند ذلك، طرأ على هذا الجسد من العطلة ما طرأ، ففقد الإدراك وعدم الحراك.
فلما رأى أن الساكن في ذلك البيت قد ارتحل قبل انهدامه وتركه وهو بحاله، تحقق أنه أحرى أن لا يعود إليه بعد أن حدث فيه من الخراب والتخريق ما حدث.
فصار عنده الجسد كله خسيساً لا قدر له بالإضافة إلى ذلك الشيء الذي اعتقد في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك.
فاقتصر على الفكرة في ذلك الشيء ما هو؟ وكيف هو؟ وما الذي ربطه بهذا الجسد؟ والى اين صار؟ ومن أي الأبواب خرج عند خروجه من الجسد؟ وما السبب الذي أزعجه إن كان خرج كارهاً؟ وما السبب الذي كره إليه الجسد، حتى فارقه إن كان خرج مختاراً؟ وتشتت فكره في ذلك كله، وسلا عن الجسد وطرحه، وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته، إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه كانت تصدر تلك الأفعال كلها، لا هذا الجسد العاطل وأن هذا الجسد بجملته، إنما هو كالآلة وبمنزلة العصي التي اتخذها هو لقتال الوحوش.
فانتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق له شوق إلا إليه.
وفي خلال ذلك نتن ذلك الجسد، وقامت منه روائح كريهة، فزادت نفرته عنه، وود أن لا يراه ثم انه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتاً.
ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وان كان قد أساء في قتله اياه! وأنا كنت أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بآمي! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب.
وبقي يتفكر في ذلك الشيء المصرف للجسد لا يدري ما هو! غير أنه كان ينظر إلى أشخاص الظباء كلها، فيراها على شكل أمه، وعلى صورتها فكان يغلب على ظنه، أن كل واحد منها إنما يحركه ويصرفه شيء هو مثل الشيء الذي كان يحرك أمه ويصرفها، فكان يألف الظباء ويحن إليها لمكان ذلك الشبه.
وبقي على ذلك برهة من الزمن، يتصفح أنواع الحيوان والنبات ويطوف بساحل تلك الجزيرة، ويتطلب هل يرى أو يجد لنفسه شبيهاً حسبما يرى لكل واحد من أشخاص الحيوان والنبات أشباهاً كثيرة، فلا يجد شيئاً من ذلك.
وكان يرى البحر قد أحدق بالجزيرة من كل جهة، فيعتقد أنه ليس في الوجود أرض سوى جزيرته تلك.
واتفق في بعض الاحيان أن انقدحت نار في أجمة قلخ على سبيل المحاكة.
فلما بصر بها رأى منظراً هاله، وخلقاً لم يعهده قبل، فوقف يتعجب منها ملياً، ومازال يدنو منها شيئاً فشيئاً، فرأى ما للنار من الضوء الثاقب والفعل الغالب حتى لا تعلق بشيء إلا أتت عليه وأحالته إلى نفسها، فحمله، العجب بها، وبما ركب الله تعالى في طباعه من الجراءة والقوة، على أن يده إليها، وأراد أن يأخذ منها شيئاً فلما باشرها أحرقت يده فلم يستطع القبض عليها فاهتدى إلى أن يأخذ قبساً لم تستول النار على جميعه، فأخذ بطرفه السليم والنار في طرفه الآخر، فتاتي له ذلك وحمله إلى موضعه الذي كان يأوي إليه - وكان قد خلا في جحر استحسنه للسكنى قبل ذلك.
ثم مازال يمد تلك النار بالحشيش والحطب الجزل، ويتعهدهاً ليلاً ونهاراً استحساناً منه وتعجباً منها.
وكان يزيد انسه بها ليلاً، لأنها كانت تقوم له مقام الشمس في الضياء والدفء، فعظم بها ولوعه، واعتقد أنها أفضل الأشياء التي لديه: وكان دائماً يراها تتحرك إلى جهة فوق وتطلب العلو، فغلب على ظنه أنها من جملة الجواهر السماوية التي كان يشاهدها.