للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فظهر له بهذا التأمل، أن الروح الحيواني الذي لجميع جنس الحيوان واحد بالحقيقة، وان كان فيه اختلاف يسير، اختص به نوع دون نوع: بمنزلة ماء واحد مقسوم على أوان كثيرة، بعضه أبرد من بعض.

وهو في أصله واحد وكل ما كان في طبقة واحدة من البرودة، فهو بمنزلة اختصاص ذلك الروح الحيواني بنوع واحد، وان عرض له التكثر بوجه ما.

فكان يرى جنس الحيوان كله واحداً بهذا النوع من النظر.

ثم كان يرجع إلى أنواع النبات على اختلافها.

فيرى كل نوع منها تشبه أشخاصه بعضها بعضاً في الأغصان، والورق، والزهر والثمر، والأفعال فكان يقيسها بالحيوان، ويعلم أن لها شيئاً واحداً فيه: هو لها بمنزلة الروح الحيواني وأنها بذلك الشيء واحد.

وكذلك كان ينظر إلى جنس النبات كله، فيحكم باتحاده بحسب ما يراه من اتفاق فعله في أنه يتغذى وينمو.

ثم كان يجمع في نفسه جنس الحيوان وجنس النبات، فيراهما جميعاً متفقين في الاغتذاء والنمو، ألا أن الحيوان يزيد على النبات، بفضل الحس والادراك والتحرك؛ وربما ظهر في النبات شيء شبيه به، مثل تحول وجوه الزهر إلى جهة الشمس، وتحرك عروقه إلى الغذاء، بسبب شيء واحد مشترك بينهما، هو في أحدهما أتمم وأكمل، وفي الآخر قد عاقه عائق ما، وأن ذلك بمنزلة ماء واحد قسم بقسمين، أحدهما جامد والآخر سيال، فيتحد عنده النبات والحيوان.

ثم ينظر إلى الأجسام التي لا تحس ولا تغتذي ولا تنمو، من الحجارة، والتراب، والماء، والهواء، واللهب، فيرى أنها أجسام مقدر لها الطول وعرض وعمق وأنها لاتختلف، إلا أن بعضها ذو لون وبعضها لا لون له وبعضها حار والآخر بارد، ونحو ذلك من الاختلافات وكان يرى أن الحار منها يصير بارداً، والبارد يصير حار وكان يرى الماء يصير بخاراً والبخار ماء، والأشياء المحترقة تصير جمراً، ورماداً، ولهيباً، ودخاناً، والدخان إذا وافق في صعوده قبة حجر انعقد فيه وصار بمنزلة سائر الأشياء الأرضية، فيظهر له بهذا التأمل، أن جميعها شيء واحد في الحقيقة، وان لحقتها الكثرة بوجه ما، فذلك مثل ما لحقت الكثرة للحيوان والنبات.

ثم ينظر إلى الشيء الذي اتحد به عند النبات والحيوان، فيرى أنه جسم ما مثل هذه الأجسام: له طول وعرض وعمق، وهو إما حار واما بارد، كواحد من هذه الأجسام التي لا تحس ولا تتغذى، وانما خالفها بأفعاله التي تظهر عنه بالآلات الحيوانية والنباتية لا غير، ولعل تلك الأفعال ليست ذاتية، وانما تسري إليه من شيء آخر ولو سرت إلى هذه الأجسام الآخر، لكانت مثله فكان ينظر إليه بذاته مجرداً عن هذه الأفعال، التي تظهر ببادئ الرأي، أنها صادرة عنه، فكان يرى أنه ليس إلا جسماً من هذه الأجسام، فيظهر له بهذا التأمل، أن الأجسام كلها شيء واحد: حيها وجمادها، متحركها وساكنها، إلا أنه يظهر أن لبعضها أفعالاً بالات، ولا يدري هل تلك الأفعال ذاتية لها، أو سارية أليها من غيرها.

وكان في هذه الحال لا يرى شيئاً غير الأجسام فكان بهذا الطريق يرى الوجود كله شيئاً واحداً، وبالنظر الأول كثرة لا تنحصر ولا تتناهى.

وبقي بحكم هذه الحالة مدة.

ثم انه تأمل جميع الأجسام حيها وجامدها.

وهي التي هي عنده تارةً شيء واحد وتارةً كثيرة كثرة لا نهاية لها، فرأى إن كل واحد منها، لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يتحرك إلى جهة العلو مثل الدخان واللهيب والهواء، إذا حصل تحت الماء واما أن يتحرك إلى الجهة المضادة لتلك الجهة، وهي جهة السفل، مثل الماء، وأجزاء الحيوان والنبات، وأن كل جسم من هذه الأجسام لن يعرى عن إحدى هاتين الحركتين وأنه لا يسكن إلا إذا منعه مانع يعوقه عن طريقه، مثل الحجر النازل يصادف وجه الأرض صلباً، فلا يمكن أن يخرقه، ولو أمكنه ذلك لما انثنى عن حركته فيما يظهر، ولذلك إذا رفعته، وجدته يتحامل عليك بميله إلى جهة السفل، طالباً للنزول.

وكذلك الدخان في صعوده، لا ينثني إلا أن يصادف قبة صلبة تحبسه، فحينئذً ينعطف يميناً وشمالاً ثم إذا تخلص من تلك القبة، خرق الهواء صاعداً لأن الهواء لا يمكنه أن يحبسه.

<<  <   >  >>