يرتحلوا إلى أذرعات بالشام لم يجد محمد بأسا من قبول عرضهم.
[تحكيم سعد بن معاذ وحكمه بقتل اليهود]
وبعثت قريظة إلى محمد تعرض عليه الخروج إلى أذرعات تاركة وراءها ما تملك، فأبى ذلك عليها إلا أن تنزل على الحكم. فأرسلت إلى الأوس تقول لهم ألا تأخذون لإخوانكم مثلما أخذت الخزرج لإخوانهم! فمشى جماعة من الأوس إلى محمد فقالوا: يا نبيّ الله، ألا تقبل من حلفائنا مثل الذي قبلت من حلفاء الخزرج؟! قال محمد: يا معشر الأوس، ألا ترضون أن أجعل بيني وبين حلفائكم رجلا منكم؟! قالوا: بلى. قال:
فقولوا لهم فليختاروا من شاؤا. فاختار اليهود سعد بن معاذ، وكأنما أعماهم القدر عما كتب لهم في لوح حظهم، فأنساهم مقدم سعد إليهم أوّل نقضهم عهدهم، وتحذيره إيّاهم، ووقوعهم في محمد أمامه، وسبّهم المسلمين بغير حق. وأخذ سعد المواثيق على الفريقين أن يسلم كلاهما لقضائه وأن يرضى به. فلمّا أعطوه المواثيق، أمر ببني قريظة أن ينزلوا وأن يضعوا السلاح، ففعلوا، فحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وتقسم الأموال، وتسبى الذرّية والنساء. فلمّا سمع محمد هذا الحكم قال: والذي نفسي بيده لقد رضي بحكمك هذا الله والمؤمنون وبه أمرت. ثم خرج إلى سوق المدينة فأمر فحفرت بها خنادق ثم جيء باليهود أرسالا فضربت أعناقهم، وفي هذه الخنادق دفنوا. ولم يكن بنو قريظة يتوقعون هذا الحكم من سعد بن معاذ حليفهم. بل كانوا يحسبونه يصنع بهم ما صنع عبد الله بن أبيّ مع بني قينقاع. ولعل سعدا ذكر أن الأحزاب لو انتصرت بخيانة بني قريظة لما كان أمام المسلمين إلا أن يستأصلوا وأن يقتلوا وأن يمثّل بهم. فأزاهم بمثل ما عرّضوا المسلمين له.
وقد أظهر اليهود من الجلد أمام القتل ما تراه في حديث حييّ بن أخطب حين قدّم لضرب عنقه، فقد نظر إليه النبيّ وقال: ألم يخزك الله يا حيي، فأجاب حييّ:«كل نفس ذائقة الموت، ولي أجل لا أعدوه ولا ألوم نفسي على عداوتك» : ثم التفت إلى الناس فقال: «أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل» . ثم إن الزبير بن باطا القرظيّ كان قد منّ على ثابت بن قيس يوم بعاث بأن خلّى سبيله بعد أسره، فأراد ثابت أن يجزيه، بعد حكم ابن معاذ على اليهود، عن يده، فذكر لرسول الله منّة الزبير عليه واستوهبه دمه، وأجاب رسول الله طلبته. فلمّا عرف الزبير ما فعل ثابت قال له: شيخ كبير مثلي لا أهل له ولا ولد ماذا يصنع بالحياة؟! فاستوهب ثابت رسول الله دم امرأته فوهبه له، ثم استوهبه ماله فوهبه له كذلك. فلما اطمأن الزبير إلى أهله وولده وماله سأله عن كعب بن أسد وعن حييّ بن أخطب وعن عزّال بن سمعول وعن زعماء بني قريظة، فلمّا علم أنهم قتلوا قال: إني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم، فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما بصابر الله فتلة دلو ناضح «١» حتى ألقى الأحبّة. وكذلك ضربت عنقه بمشيئته. وكان المسلمون لا يقتلون في غزواتهم النساء والذّراري، ولكنهم يومئذ قتلوا امرأة طرحت الرّحا على مسلم فقتلته. وكانت عائشة تقول: والله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل. وأسلم يومئذ من اليهود أربعة فنجوا من القتل.
[دم بني قريظة في عنق حيي بن أخطب]
وفي رأينا أن دم بني قريظة معلّق في عنق حيّي بن أخطب وإن كان قد قتل معهم. فهو قد حنث في العهد الذي عاهد قومه من بني النضير حين أجلاهم محمد عن المدينة ولم يقتل منهم بعد النزول على حكمه أحدا.