بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويّ عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله والقويّ فبكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذلّ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمّهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله» وخطاب المنصور العباسيّ بعد تسنّمه ذروة العرش إذ يقول:«أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته، وأعطيه بإذنه؛ فقد جعلني الله عليه قفلا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني ... » حسب الإنسان أن يوازن بين هذين الخطابين ليرى مدى التغير العظيم في القواعد الأساسية للحياة الإسلامية في أقل من قرنين، تغيّرا نقلها من الشورى بين المسلمين إلى الحكم المطلق المستمدّ من الحق المقدّس.
ولقد كانت هذه الثورات، وما أدّت إليه من انقلاب بعد آخر في أسس الحكم سبب ما آل إليه أمر الدولة الإسلامية من بعد من انحلال وتقهقر. ومع ازدهار الإسلام والحضارة الإسلامية قرنين كاملين بعد مقتل عثمان، ومع ما نشط إليه الإسلام من فتح الممالك وتدويخ الملوك على يد المغول وعلى يد السلاجقة بعد الانحلال الأوّل، فإن الفترة الأولى التي انتهت بمقتل عثمان هي التي تقررت فيها القواعد الصحيحة للحياة الإسلامية العامة؛ وهي لذلك وحدها التي يمكن الاعتماد الثابت اليقيني على ما وقع فيها لمعرفة هذه القواعد الصحيحة. أمّا فيما بعد هذه الفترة، فإنه- على الرغم من ازدهار العلم والمعرفة أيام الأمويين، وخاصّة أيام العباسيين- قد اندست يد العبث بهذه القواعد الأساسية الصحيحة لتقيم مقامها قواعد تتنافى في كثير من الأحيان مع روح الإسلام، تحقيقا لأغراض سياسة شعوبية في أكثر أمرها. وقد كان الأعاجم وكان الذين تظاهروا بالإسلام من اليهود والنصارى هم الذين روّجوا لهذه القواعد الجديدة، غير متورّعين في تأييدها عن اختراع الأحاديث ونسبتها إلى النبي عليه السلام، ولا عن ادّعاء أشياء على الخلفاء الأولين لا تتفق مع سيرتهم ولا تلتئم مع مزاجهم.
هذه الفترة الأخيرة لا يمكن الاعتماد على ما دوّن فيها اعتمادا علميّا دون تمحيصه ونقده، أدق التمحيص والنقد، بغير تأثر بالأهواء أو بنزعات المزاج الذاتي. وأوّل ما يجب من ذلك أن نردّ مما وقع الخلاف عليه فيها كلّ ما لا يتفق مع القرآن، وإن نسب ما وقع عليه الخلاف إلى النبي العربي. أمّا صدر الإسلام الأول إلى مقتل الخليفة الثالث فيمكن الاعتماد على ما يروى مباشرة عنه، ويمكن لذلك أن يتخذ أيضا أساسا لتمحيص ما جاء بعده. وإني لأحسبنا إذا فعلنا هذا كله بدقة علمنية، قديرين على أن نرسم صورة صادقة من قواعد الإسلام الصحيحة ومن الحياة الإسلامية الأولى؛ هذه الحياة العقلية والروحية التي بلغت من القوّة والسموّ مبلغا دفع عرب البادية من أهل شبه الجزيرة لينتشروا في الأرض خلال بضعة عقود من السنين كي يقيموا في مختلف الممالك أسمى المبادئ الإنسانية التي عرفها التاريخ. ولو أننا نجحنا في هذا لكشفنا أمام الإنسانية أفقا تصعد منه إلى معرفة أسرار الكون النفسيّة والروحيّة، وتتصل به عن طريق هذه المعرفة اتصالا يهيء للإنسانية أسباب نعمتها وسعادتها، كما أنها ازدادت استمتاعا بما في الكون حين ازدادت اتصالا بأسرار القوّة والحركة الكمينة فيه بعد أن عرفت الكهرباء والأثير. ولو أننا نجحنا في هذا لكان للإسلام من الفضل على الإنسانية اليوم ما كان له في الصدر الأوّل، حين خرج به العرب من شبه الجزيرة لينشروا مبادئه السامية في العالم كله.