المصري القديم مصورا في أوزوريس وإيزيس وهورس مشيرا إلى وحدة الحياة في بلادها وتجددها وإلى اتصال خلد الحياة من الآباء إلى الأبناء، وما بين الوثنية اليونانية في تصويرها للحق والخير والجمال تصويرا مستمدّا من مظاهر الكون الخاضعة للحس، كما اختلف من بعد ذلك اختلافا هوى بهذا التصوير في عصور الانحلال المختلفة إلى دنيا المراتب، لكنه بقي دائما أصل هذه الحضارات التي شكلّت مصاير العالم، كما أنه قويّ الأثر في حضارة هذا العصر الحاضر، وإن حاولت هذه الحضارة أن تتخلّص منه وتقف في وجهه وقوفا ما يزال الحين بعد الحين يستدرجها إليه. ومن يدري! لعله سيد مجها فيه في مستقبل قريب أو بعيد مرة أخرى.
في هذه البيئة التي استندت حضارتها منذ ألوف السنين إلى أصل ديني، نشأ أصحاب الرسالة بالأديان المعروفة حتى اليوم. في مصر نشأ موسى، وفي حجر فرعون تربي وهذّب، وعلى يد كهنته ورجال الدين من أهل دولته عرف الوحدة وعرف أسرار الكون. فلما أذن الله له في هداية قومه ببلد كان فرعون يقول لأهله:
«أنا ربكم الأعلى» وقف يجادل فرعون وسحرته، حتى اضطرّ آخر الأمر فهاجر ومعه بنو إسرائيل إلى فلسطين. وفي فلسطين نشأ عيسى روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم. فلما رفع الله عيسى بن مريم إليه، قام الحواريون من بعده يدعون إلى المسيحية التي دعا إليها. ولقي الحواريون ومن اتبعهم أشد العنت؛ حتى إذا أذن الله للمسيحية أن تنتشر حمل علمها عاهل الروم صاحبة السيادة على العالم يومئذ، فدانت الإمبراطورية الرومانية بدين عيسى؛ وانتشرت المسيحية في مصر والشام واليونان، وامتدت من مصر إلى الحبشة، وظلت من بعد قرونا يزداد سلطانها توطّدا، ويستظل بلوائها كل من استظل بلواء الروم وكل من طمع في مودتها وفي حسن العلاقة بها.
[المسيحية والمجوسية]
تجاه المسيحية التي انتشرت في ظلّ لواء الروم ونفوذها وقفت مجوسية الفرس تؤازرها قوى الشرق الأقصى وقوى الهند المعنوية. وقد ظلت آشور وظلت مدينة مصر الممتدة في فينيقيا عصورا طويلة حائلة دون انتطاح عقائد الغرب والشرق وحضارتيهما. على أن دخول مصر وفينيقيا في المسيحية أداب هذا الحائل ووقف مسيحية الغرب ومجوسيّة الشرق وجها لوجه. وقد ظل الشرق والغرب عصورا متصلة وفي نفس كلّ من الهيبة لدين الآخر ما أقام مكان ذلك الحائل الطبيعي الأول حائلا آخر معنويّا، اقتضى كلتا قوّتيه أن توجه جهودها وغزواتها الروحية في ناحيتها، وألا تفكر في دعوة الآخرى إلى عقيدتها أو حضارتها، مع ما اتصل بينهما على مرّ القرون من حروب. ومع أن فارس انتصرت على الروم وحكمت الشام ومصر ووقفت على أبواب بزنطية، لم يفكر ملوكها في نشر المجوسية أو إحلالها محل النصرانية. بل احترم الغزاة عقائد المحكومين، وعاونوهم على تشييد ما خرّبت الحرب من معابدهم، وتركوا لهم الحرية في إقامة شعائرهم. وكل ما صنع الفرس أن أخذوا الصليب الأعظم وأبقوه عندهم، حتى دارت الحرب عليهم واسترده الروم منهم. وكذلك ظلت غزوات الغرب الروحية في الغرب، وغزوات الشرق في الشرق؛ وبذلك كان الحائل المعنوي في مثل منعة الحائل الطبيعي، وكفل تكافؤ القوّتين من الناحية الروحية عدم تصادمهما.
[بزنطية وارثة رومية]
وظلت الحال كذلك إلى القرن السادس المسيحي. وفي هذه الأثناء اشتدت المنافسة بين رومية وبزنطية. أما رومية، التي أظلّت أعلامها ربوع أوروبا إلى الغال وإلى السلت في إنكلترا أجيالا عدّة، والتي فاخرت العالم وما زالت تفاخره بعهد يوليوس قيصر، فقد بدأ مجدها ينزوي رويدا رويدا، حتى انفردت بزنطية