للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعلّة هذا القول أن الثقيل تبطئ النفوس عن التسرع إليه، فيتضح مع الإبطاء وتطاول الزمان صوابُ ما استعجم وظهور ما اشتبه، والمحبوب السهل تُسرع النفس إليه وتعجل بالإقدام عليه فيقصر الزمان عن تصفحه ويفوت استدراكه؛ لتقضي فعله فلا ينفع التصفّح (١) بعد العمل ولا الاستبانة بعد الفوت، وأقول شعرا:

إذا فات المفات فلا رجوع ... ويبقى من عواقبه الوجيع

ويبقى ردّه صعبًا عسيرًا ... وفي عُقباه عبرته نجيع

وليس يردّ ما قد فات يومًا ... خميس كلّه بطل شجيع

أليس طِلاب ما قد فات جهل ... وذكر المرء ما لا يستطيع

فلا تك غافلاً عن كلّ خير ... وكن لله في الدنيا مطيع (٢)

ولا تطع الهوى ودع الأماني ... ونفسك في هواها لا تطيع

وكن بالعمر في الدنيا ضنينًا ... ولا أيامه لهوًا مطيع

فعمرك رأس مالك فاستفده ... ووقتك لا تضيّعه بما (٣) تضيع

وكن حذرًا [ق ١٠٩ / ب] وقوفك في ميعادٍ ... بيوم قد يشيب له الرضيع

وقد روينا عن رسول الله عليه السلام: "أفضل الأعمال ما خولفت عليه النفوس" (٤)، وأقول شعرا:

ألا قل لمن يهوى ورود المناهل ... على كلّ ما يهوى النفوس نباهل

يبلغ جهلاً نفسه كلما اشتهت ... وسحقًا لتباع النفوس الجواهل

إذا طالبته النفس يومًا بشهوة ... تساهل ما يهوى بكلّ التساهل

أطاع الهوى طوعًا ولم يعص نفسه ... يسارع ما تهواه لا بالتماهل

إذ المرء أعطى نفسه كلّما اشتهت ... ولم ينهها تافت إلى كلّ باطل

إذ نفسه لم ينهها عند غيّها ... وطوّل نهيًا نفسه بالتماطل

إذا طعمت فيه أماتت حياته ... وعامره ما كان حيا بعاطل

وساقت إليه الإثم والعار للذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل

فكن حذرًا منها على كلّ حالة ... وإيّاك أمرًا أنت [منه] بخاجل


(١) قال الزبيدي في تاج العروس مادة: ص ف ح: " وَفِي (الأَساس): تَصفَّحَه: تَأَمَّله ونَظَرَ فِي صَفَحَاتِه: والقَوْمَ: نَظَرَ فِي أَحْوَالِهم وَفِي خِلالِهم، هَل يَرَى فُلاناً. وتَصَفَّحَ الأَمْرَ. قَالَ الخَفَاجيّ فِي العِناية فِي أَثْنَاءِ القِتَال: التَّصفُّحُ: التَّأَمُّلُ لَا مُطْلَقُ النَّظَرِ، كَمَا فِي (الْقَامُوس) قَالَ شيخُنا: قلت: إِن النّظر هُوَ التأَمُّل، كَمَا صَرَّح بِهِ فِي قَوْلهم: فِيهِ نَظَرٌ".
(٢) في الأصل: تطيع، ولعل الأصوب: مطيع، وحذفت الألف للقافية، كما أنها لغة، والله أعلم
(٣) الأولى حذفها لاستقامة الوزن.
(٤) أخرجه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" (ص/١٢٣) (١١٣) من قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بلفظ: "ما أكرهت"، وقال العراقي في "تخريج الإحياء": "لا أصل له مرفوعا".

<<  <   >  >>