[سنن الأمم السالفة في الأخلاق بادت ولم يبق إلا سنن الإسلام:]
لقد كانت لبلاد بابل، والهند، والصين، ولمصر، والشام، واليونان، والرومان حضارات زاهرة، ومدنيّات عظيمة، وثقافات عالية، وقد كانت لأهالي تلك البلاد سنن في الأخلاق اتخذوا منها أصولا، وضوابط للثقافة، وآدابا للمعاشرة: في النهوض، والقعود، والكلام، والطعام، والشراب، واختاروا مناهج خاصّة بمعيشتهم، ووضعوا آدابا لهم في الزّيّ والشارة، وأوضاعا في الملابس، وكان لهم هدي في نومهم، ويقظتهم، وحدود في لقاء الناس، والتعامل معهم، وسنّوا لأنفسهم سننا في الزواج، ورسموا رسوما للتهنئة، والتعزية، وتكفين الموتى، ودفنهم، ولم يتركوا حالا من أحوال الإنسان- من عيادة المريض، ومصافحة الإخوان، ولقاء الخلّان، والاستحمام- إلا اتخذوا لها السنن، والرسوم، والآداب، فنشأت من ذلك أصول وقواعد لمدنيتهم، وثقافتهم. وبديهيّ أنّ هذه السنن والآداب لم تتم لهم إلا في قرون متطاولة، ثم درست آثارها، ومحيت رسومها، وطمست معالمها، فكان قيامها واكتمالها في زمان طويل، وزوالها في مدّة قليلة. أما مدنية الإسلام وثقافته؛ فإن قيامهما، واكتمالهما، وظهور بهائهما في سنوات قليلة، ولا تزال مدنية الإسلام، وثقافته مستمرة، ومعمولا بها في الدّنيا منذ أربعة عشر قرنا بين أمم شتّى، وأقوام مختلفة، يستوي في ذلك العربيّ، والهنديّ، والشرقيّ، والغربيّ؛ لأنّ المسلمين اقتبسوا ذلك من مشكاة نبيهم صلّى الله عليه وسلم، وتأسّوا فيه بحياته الكريمة، فاستنارت بهذا النور حياة الصحابة، وانعكست أضواؤها على حياة التابعين، ومن جاء بعدهم، فنشأت عن ذلك بيئة صالحة زكيّة، وكان منها للعالم الإسلامي كلّه أسوة حسنة في رسومه الفاشية، وآدابه القويمة.
ويمكننا أن نقول بعبارة أخرى: إن الحياة المحمدية كانت مركز الدائرة، فجاء الصحابة، فخطّوا حول نقطة المركز خطوطا تمّت بها تلك الدائرة والتف المسلمون بعد ذلك من حولها. وإذا كانت المدنية الإسلامية