للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم ترجل عن مطيته وقال: «أنا عبد الله ورسوله» ورفع يديه يسأل الله ويدعوه.

إخواني! هل سمعتم بقائد باسل لا يبالي بقلّة جيشه، ونقص عدّتهم، ولا ينكص على عقبيه، ولا ينسحب من ساحة القتال، وإن تفرّق عنه جنده، ويستغني عن سلاحه باستنجاد ربه، وطلب نصرته؟ ذلك كان مبلغ ثقته بالله، ويقينه بنصرته، واعتماده على مدده «١» .

مقارنة بين عظة أحبوا أعداءكم ومعاملة النبي صلّى الله عليه وسلم لأعدائه:

وإخالكم سمعتم بواعظ يعظ الناس بأن يحبّوا أعداءهم، ويحثهم على مودة مبغضيهم، وأن يزجروا الطير تمرّ سعدا للذين يزجرون لهم الطير تمرّ نحسا، لكنّي لا أحسبكم رأيتم مثالا عمليّا لاتّعاظ الناس بهذه المبادىء، فتعالوا معي إلى مدينة الرسول؛ لنرى أمثلة رائعة للعمل بالمبادىء، لا أظنكم ترون مثلها في أمكنة أخرى، واتركوا ما جرى في مكّة؛ فإن النبي صلّى الله عليه وسلم لم تكن له فيها قوة، فلا نضرب المثل منها للحلم، والعفو عن مقدرة، لكنّه لما خرج من مكة ومعه صاحبه أبو بكر تعقّبهما سراقة، وهما في طريقهما إلى المدينة، وكان يطمع بجائزة قريش وهي مئة من الإبل لمن يأتيها برأس الرسول، فجعل يركض فرسه والطمع في الجائزة يستفزه حتى دنا منهما، وخاف أبو بكر على الرسول، ودعا الرسول ربه أن يعصمهما من شره، فساخت قوائم فرس سراقة في الرّمل، فاضطر أن يترجّل، وجعل يستقسم بالأزلام كعادتهم في الجاهلية فخرج له الذي يكره ثلاث مرات، ومع ذلك ظلّت قوائم الفرس في الرّمل فأيقن سراقة بالشرّ، وعزم على الرجوع، فنادى الرسول وطلب منه الأمان، وأن يكتب له بذلك كتابا، وألايؤاخذه يوم تعلو كلمته، فيتغلب على قريش، فأمر الرسول أبا بكر، فكتب له كتاب الأمان، فلما فتحت مكة ورأى سراقة بعينه كيف


(١) وكان هذا يعني أن معيار صدقي ليس بانهزام جيش أو انتصار جيش، ولكن معيار صدقي نابع من ذاتي (أي من كونه صلّى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله) [رحمة للعالمين، للشيخ سليمان المنصور فوري، ص ١١٨، طبع دار السلام، الرياض] .

<<  <   >  >>