للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

شبيه بحالنا حين نسمع أن شخصا لديه فكرة آلة فيها من الحذق والصنعة قسط كبير، فيجوز لنا حينئذ أن نتساءل عن وسيلته في الوصول إلى تلك الفكرة, ترى أجاءته الفكرة لأنه شاهد في مكان ما آلة مثلها صنعها شخص آخر، أم لأنه كان قد تعلم الميكانيكا، أم لأنه قد رُزق من نفاذ الذهن حظا مكنه من أن يبتدعها دون أن يكون قد رأى آلة مثلها في أي مكان آخر؟ وذلك لأن كل الصنعة المتمثلة في فكرة ذلك الشخص، كما تتمثل في لوحة أو صورة فنية، يلزم أن تتحقق في علتها الأولى الأساسية، لا على سبيل التمثيل أو المحاكاة فحسب، بل بالفعل, وعلى ذلك النحو عينه أو على نحو يفوق في الشرف١ ما تمثله الفكرة.

١٨- في إمكاننا مرة أخرى إقامة الدليل على وجود الله، استنادا على ما تقدم:

وكذلك ما دمنا نجد في أنفسنا فكرة إله أو موجود كامل على الإطلاق، فيجوز لنا أن نبحث عن العلة التي أوجدت تلك الفكرة فينا، ولكن بعد التفاتنا إلى ما تمثله لنا من عظيم الكمالات نجد أنفسنا مضطرين إلى الإقرار بأنها إنما جاءت إلينا من موجود كامل جدا, أي: من إله هو موجود حقا؛ لأنه ليس من البين فقط بالنور الفطري أن العدم لا يمكن أن يكون موجدا لشيء مهما يكن، وأن الأكمل لا يمكن أن يكون ناتجا عن الأقل كمالا أو تابعا له٢, بل لأننا نرى أيضا بهذا النور نفسه أن من المحال أن يكون لدينا فكرة أو صورة لأي شيء ما لم يكن في أنفسنا أو خارج أنفسنا أصل يحوي بالفعل جميع ما نتمثله بتلك الفكرة من


١ انظر ترجمتنا العربية لكتاب "التأملات" الطبعة الثانية، القاهرة ١٩٥٦ "التأمل الثالث, ص١٠٤".
٢ ما يسميه ديكارت "الأكمل" هو "فكرة" الموجود الكامل أو فكرة الله. وواضح من هذا أنه يعتبر الفكرة ذاتها ضربا من الوجود، فليست الفكرة عنده ثمرة من ثمرات الذهن فحسب, بل هي حقيقة يستكشفها الذهن، ومن حيث إن الفكرة هي ذاتها وجود فهي تتطلب علة تفسر وجودها.

<<  <   >  >>