للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

خالق النفس أو الفكر، ذلك الذي يملك في ذاته فكرة الكمالات اللامتناهية الموجودة في الله. فجلي أن من عرف شيئا أكمل من ذاته لم يهب الوجود لذاته؛ إذ إنه لو كان يستطيع ذلك لكان يهب من ذاته كل كمال وصل إلى علمه. ويترتب على ذلك أنه لا يستطيع البقاء في الوجود إلا معتمدا على الموجود الحائز بالفعل على جميع هذه الكمالات، وهو الله١.

٢١- في أن آجالنا في حياتنا كافية وحدها لإثبات وجود الله:

ما أظن أن أحد يساوره الشك في حقيقة هذا التدليل إذا التفت إلى طبيعة الزمان أو أجل الإنسان في الحياة؛ ذلك لأنه لما كان من طبيعة الزمان أن لا تعتمد أجزاؤه بعضها على بعض ولا يجتمع بعضها مع بعض أبدا، فليس يلزم من وجودنا الآن أن نكون في الزمان الذي يليه، وما لم تكن العلة نفسها التي أوجدتنا مستمرة في إيجادنا, أي: حافظة لبقائنا٢. ومن الميسور أن نعلم أننا لا


١ قارن قول ديكارت: "وأضفت إلى ذلك أنه بما أنني قد عرفت بعض الكمالات التي ليس لي شيء منها، فإنني لست الكائن الوحيد الذي في الوجود. بل يجب بالضرورة أن يكون هناك كائن آخر أكثر كمالا، أنا تابع له، ومن لدنه حصلت على كل ما هو لي؛ لأنني لو كنت وحيدا ومستقلا عن كل ما هو غيري بحيث كان لي من نفسي كل هذا القليل الذي شارك الذات الكاملة فيه، لكن أستطيع أن أحصل من نفسي للسبب عينه على كل ما هو فوق ذلك مما أعرفه ينقضي، وبذلك أكون أنا نفسي غير متناهٍ وأزليا أبديا وغير متغير، وعالما بكل شيء، وقادرا على كل شيء. وقصارى القول: أن تكون لي كل الكمالات التي أستطيع أن ألحظ أنها الله". ""مقال عن المنهج" القسم الرابع، ترجمة الأستاذ محمود الخضيري، القاهرة ١٩٣٠ ص٦٠, ٦١".
٢ يقول ديكارت في التأمل الثالث: "إن من الأمور الواضحة البينة للغاية عند كل من يمعنون النظر في طبيعة الزمان، أن حفظ جوهر ما في كل لحظات مدته، يحتاج إلى عين القدرة وإلى عين الفعل اللازمتين لأحداثه أو لخلقه من جديد، إذا لم يكن بعد موجزا" ""التأملات" ترجمتنا العربية، الطبعة الثانية ١٩٥٦، ص١١٥".
وواضح هنا أن ديكارت يتصور الزمان منفصلا ومنقسما في الواقع, وإذا كان الأمر كذلك فالقدرة اللازمة لإبقائنا لا بد أن تكون مكافئة للقوة اللازمة لخلقنا في أي برهة من الزمن, ولا شيء يمكن أن يدوم إلا بخلق متجدد.
ومن المعلوم أن "برجسون" سينقد هذا التصور للزمان، ويرى أن "الديمومة" هي الزمان الحي, فهي لا تقبل التجزئة، وما "اللحظات" إلا تجريدات ميتة لا حياة فيها "برجسون: "المعطيات المباشرة للوعي"".

<<  <   >  >>