منها ولا نعلم عن يقين أننا غير مخطئين. وإني أقر أنه يندر أن نحكم على شيء ونحن نلاحظ أننا نعرفه معرفة متميزة بالقدر الكافي؛ لأن العقل يملي علينا أننا لا ينبغي أن نحكم أبدا إلا على ما نعرفه معرفة متميزة قبل حكمنا عليه، ولكننا كثيرا ما نخطئ لأننا نفترض أننا قد عرفنا من قبل أشياء كثيرة, وأننا ما نكاد نتذكرها حتى نمنحها تصديقنا وكأننا اختبرناها اختبارا كافيا مع أنه لم يكن لدينا عنها في الواقع معرفة صحيحة.
٤٥- ما هو الإدراك الواضح المتميز؟:
بل إن من الناس من لم يدركوا في حياتهم كلها شيئا كما ينبغي أن يدركوه ليحكموا عليه حكما يقينيا صحيحا؛ لأن المعرفة لا بد أن تكون واضحة ومتميزة معا. والمعرفة الواضحة عندي هي المعرفة الحاضرة الجالية أمام ذهن منتبه؛ وعلى ذلك نقول: إننا نرى الموضوعات بوضوح حين تكون ماثلة أمام أبصارنا، فتؤثر عليها تأثيرا قويا وتجعلها مستعدة لرؤيتها. والمعرفة المتميزة هي المعرفة التي بلغ من دقتها واختلافها عن كل ما عداها أنها لا تحتوي في ذاتها إلا على ما يبدو بجلاء لمن ينظر فيها كما ينبغي١.
٤٦- في أن الإدراك يمكن أن يكون واضحا، دون أن يكون متميزا، ولكن العكس ليس صحيحا:
ولنضرب لذلك مثل الشخص الذي يحس ألما شديدا:
إن معرفته هذا الألم معرفة واضحة بالقياس إليه، وليست من أجل ذلك متميزة دائما؛ لأنه يخلط بينها عادة وبين الحكم الخاطئ الذي يطلقه على
١ "ينظر فيها كما ينبغي" أي: ينظر فيها بعناية. إن من الميسور أن نلاحظ هنا المنزلة الممتازة التي جعلها ديكارت للنظر المنهجي المنظم الذي تعتمد عليه "الأذهان المنتبهة" في سعيها إلى الحقيقة. وههنا سمة من سمات "الجوانية" الأصيلة في فلسفه ديكارت.