والخواص الأخرى التي ندركها بوضوح في جميع الأجسام كما بينّا من قبل، اتضح أننا نعرفها على نحو يختلف كل الاختلاف عن النحو الذي نعرف عليه ما هو اللون في الجسم نفسه أو الألم أو الرائحة أو الطعم أو أيا من الخواص التي قلت بوجوب نسبتها إلى الحواس. فمع أن تأكدنا من وجود الجسم حين نرى شكله ليس أقل من تأكدنا من وجوده حين نرى لونه، إلا أن معرفتنا لخاصية الشكل فيه معرفة أكثر وضوحا من معرفتنا للخاصية التي بها يبدو لنا ملونا١.
٧٠- في أننا نستطيع أن نحكم بوجهين على الأشياء المحسوسة، بأحدهما نقع في خطأ وبالآخر نتجنبه:
واضح إذن أننا إذا قلنا لشخص: إننا ندرك ألوانا في الأجسام, فكأننا قلنا له: إننا ندرك في هذه الأجسام شيئا نجهل طبيعته، ولكنه يحدث فينا إحساسا واضحا جليا يسمى بإحساس الألوان. ولكن هنالك اختلافا كبيرا في أحكامنا؛ لأننا ما دمنا نكتفي بالحكم بأن هنالك شيئا لا ندري ما هو في الأجسام "أي: في الأشياء كما هي" يحدث فينا هذه الأفكار المبهمة التي تسمى أحاسيس, فإننا نباعد بين أنفسنا وبين مواطن الخطأ ونجعلها بمأمن من المزالق التي قد توقعنا في الضلال، من حيث إننا لا نتعجل في الحكم على شيء لا نأنس في أنفسنا أننا نعرفه معرفة تامة، ولكن حين نظن أننا نرى لونا معينا في جسم ما، وإن كنا غير عارفين حق المعرفة بما نسميه بهذا الاسم، وكنا عاجزين عن تصور أي مشابهة بين اللون الذي نفترض وجوده في الأشياء وبين اللون الذي هو في فكرنا، إلا أننا لما كنا لا نلتفت إلى هذا الأمر وكنا نلاحظ في تلك الأجسام عينها
١ فكرتنا عن الشكل فكرة واضحة ومتميزة، في حين أن فكرتنا عن اللون فكرة غامضة ومبهمة. فاللون ليس في الأجسام على ما يبدو لنا, وإنما هو مجموعة من الحركات الصغيرة التي لا ترى بالعين المجردة, فهي حركات نتصورها ولا نتمثلها. وديكارت يفرق بين الصفات الأولى "الامتداد والشكل والحركة" وهي صفات موجودة في الأشياء ذاتها, وبين الصفات الثانية وهي معتمدة على الأشياء وعلى الذات المدركة في آن واحد.