للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يتبين من هذا أن وسائل المعيشة التي يستخدمها الإنسان تلعب دورا هاما في تمييز ابن خلدون بين مجتمعي البداوة والحضارة. فالوسائل البدائية البسيطة التي يلجأ إليها الإنسان في الصحراء أو التلال تؤدي إلى شكل بدائي بسيط من أشكال الحياة, بينما تؤدي الوسائل المتطورة إلى شكل معقد ومتقدم من أشكال الحياة, ووجود الناس البدائيين في الصحارى والتلال سابق على وجود القرى والمدن. وبالمثل, فإن العادات تتولد نتيجة لشيوع الرفاهية تالية زمنيا لانتشار العادات التي تنتج عادة من مجتمع يعاني من شظف العيش, أو لا يعرف سوى إشباع ضروريات الحياة. وموضوع دراسة ابن خلدون هنا هم الناس في ارتباطهم بشكل معين من أشكال الإنتاج في حياتهم الواقعية التي يمكن ملاحظتها, وقياس درجة تطورها وليس في عزلة تصورية من وحي الخيال. فدرجة تطورهم إذًا تتوقف على الطريقة التي يحصلون بها على معاشهم. وفي الواقع لم يكن ابن خلدون ليقنع بمقارنة عادية بين أسلوب وأسلوب آخر متطور لحياة البشر, ولكن كان مهتما بتتبع آثار الانتقال من أسلوب إلى آخر على الأشكال الحضارية المختلفة, والطابع المميز للجماعات البشرية.

٢- وقبل أن نتكلم عن رأي ابن خلدون في الوسائل التي يلجأ إليها الإنسان لمواجهة عجزه كفرد عن إشباع حاجاته اليومية -أو ما اصطلح على تسميته فيما بعد بظاهرة تقسيم العمل-نلاحظ أنه كان يتمتع بمعرفة عميقة للحياة الاقتصادية التي عاصرها, وبدور القوى المؤثرة في التطور الاجتماعي, وهي حقيقة تتجلى في النقاط الثلاث التي نتعرض لمناقشتها الآن. ومما يدعو إلى الدهشة بالنسبة إلى مستوى التطور في القرن الرابع عشر أنه أظهر فهما تاما لهذه القوى المؤثرة التي تعبر عن نفسها في القوى المنتجة في المجتمع "سواء البدوي, أو الحضري" والعلاقات التي تنمو بين الناس من أجل الحصول على الضروريات, أو كماليات الحياة. ففي الباب الأول من المقدمة "في العمران البشري على الجملة" شرح ابن خلدون

<<  <   >  >>