مع أترابه يستنشق هواء الصحراء، ويمتع ناظريه بالفضاء الواسع الذي لا يردهما إلا النهر الذي جعل القرية جزيرة. وكانت هذه الفترة فترة بؤس وبلاء على أهل تلك الديار؛ لأن المستعمر الفرنسي قد قبض بكلتا يديه على هذه البلاد، وانقض عليها انقضاض الأسد على الفريسة, بعد أن جرت بينه وبين الأهالي العزل من السلاح حروب انتهت باستعماره البلاد والعباد، وفرض سلطته عليهم قهراً شأن غيرها من البلاد التي اقتسمها الأوربيون من الانجليز والبلجيكيين والبرتغاليين والألمان.
وذلك لأنهم علموا ما امتازت به أفريقيا الخضراء من جودة التربة وكثرة المياه، وجمال الطبيعة، ووفرة الأقوات والأرزاق والمعادن، وقام البعض منهم بالقرصنة، وبعض الأعمال التي لا يقرها شرع، ولا خلق ولا وازع إنساني، ولقد قال عنها بعض الرحالة المحدثين:"إنها القارة الافريقية الخضراء زينة القارات ومستودع الكنوز والثروات، ومنبع للرجولات والبطولات".
دخلها الإسلام أول ما دخلها قبل أن يعرف العالم الغربي والشرقي، وقام الإسلام فيها بدوره الحضاري في أقطارها الشرقية والوسطى والغربية والشمالية، وإن الديانة الكبرى اليوم السائدة فيها هي الإسلام ومع ذلك فإن أفريقيا المسلمة لا تزال مجهولة لدى العالم الغربي والإسلامي، ومجهول ما فيها من كنوز وخيرات وثروات يانعات, أقول إنه مع الأسف، لم يعرفوا أن هناك أمة يتوجهون إلى كعبة الله، ويتبعون رسول الله، ويتألمون لآلام الأمة التي بعث فيها رسول الله مع أن أول اتصال بأفريقيا الشرقية كان على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما أمر أصحابه الكرام بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم حينما اشتد عليهم الأذى من مشركي مكة:"اخرجوا إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه"، واستطاع الصحابة رضوان الله عليهم أن يزرعوا بذور الإيمان هناك، وينشروا دين الإسلام حتى أسلم النجاشي نفسه ملك الحبشة آنذاك.
ولما جاء نعيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المصلى فصف أربعة صفوف، وصلى عليه وهو غائب. وعلى ذلك فإن البلاد الأفريقية قد دخلها الإسلام والمسلمون من صحابة رسول الله قبل أن يدخل أية بلد بعد مكة, أما شمال أفريقيا وغربيها فقد بدأ الفتح فيها على عهد عثمان بن عفان الخليفة الراشد رضي الله عنه، فقد أخرج سنة ٢٧هـ عشرين ألفاً من الصحابة والتابعين يقودهم عبد الله بن أبي السرح وقطعوا مفاوز برقة وطرابلس ثم دخلوا افريقيا، ومنّ الله على المسلمين بالفتح، وكان الأعداء قد خرجوا عليهم بمائة ألف مقاتل، واستشهد لله رجال من المسلمين، وتم النصر, وفتحت تونس وكانت تسمى أفريقيا، وعاد عبد الله بن أبي السرح إلى مصر بعد أن أقام بأفريقيا سنة وشهرين, وقد عرفت هذه الغزوة بغزوة العبادلة لأنه قد شارك فيها سبعة من الصحابة كلهم يدعى عبد الله وهم: