للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

من الفكر غوصاً. حتى البديهة تعجب بالعمق نفسه لان عنصر الاجتذاب فيها يقوم على المفاجأة التي لم يكن القارئ يتصور إمكانها. ومهما يكن من شيء فتلك أحكام نظرية متداخلة، لم يحاول المنطقي أن يجعلها موضعاً للتطبيق والتأييد بالشواهد، معتذراً عن ذلك بان مثلتها موجودة في الكتب وهو لا يحب التكرار، وبان الناس قد زهدوا في هذه الأمور لان طلب القوت قد شغلهم عنها، ويأسف على العهود الذهبية أيام عز الخلافة ورونق الديانة وشيوع الخير ونفاق سوق الأدب والعلم.

تقارب النثر والنظم في الإيقاع

وعلى الرغم من أن المشكلة الكبرى التي شغلت أذهان هؤلاء المفكرين هي التمييز بين الشعر أو التفضيل بينهما، فإن أبا حيان يخلص إلى القول بان خير الكلام " ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم، يطمع مشهوده بالسمع، ويمتنع مقصوده على الطبع " (١) ؛ ولم يكن هذا التقارب بين الفنين جيداً، فقد رأيناه عند ابن طباطبا، ولكن أبا حيان يلمح إلى شيء من التقارب في الايقاع؛ وهو شيء كفله نثر القرن الرابع، فإن النغمة الموسيقية فيه ارتفعت حتى قاربت نغمة الشعر، وغلبت قوة المحاكاة على الخطابة واختلط الفنان، كما قال الفارابي، ولكن أبا حيان لم يكن يعني الاقتراب بينهما في التصوير؛ غير أنه وجد في القرن الرابع، من يعيب الجاحظ بقلة التشبيهات والاستعارات، بل من يعيبه بأنه بعيد عن " معتاص الكلام " وغريبه (٢) ؛ مع أن أبا حيان وأصحابه قد شددوا كثيراً على خلو الشعر والنثر من الغريب وما أشبهه، ولكن نثر القرن الرابع لم يحفل كثيراً بهذا المقياس.


(١) الإمتاع ٢: ١٤٥.
(٢) انظر المقامة الجاحظية من مقامات بديع الزمان.

<<  <   >  >>