للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

كذلك فإن الكلام يقوم بثلاثة أشياء: لفظ حامل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم، وقد حاز القرآن في هذه الثلاثة معاً غاية الشرف والفضيلة: ففيه أفصح الألفاظ وأعذبها وأجزلها، واحسن التأليف وخير المعاني. " وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير؟ " (١) وبعد أن يبين الخطابي كيف تفنن القرآن في تنويع المعاني مدرجة في أحسن نظوم التأليف وقف عند الألفاظ وقفة دل بها على أن كلاً من التأليف والمعنى يعتمد على اللفظ، أو بعبارة أدق على وضع كل نوع من الألفاظ موضعه الأخص الأشكل به (٢) ؛ ولهذا عرج على بعض الألفاظ المتشابهة في المعنى (مثل الشح والبخل.. الخ) ودل على أن اللفظة الواحدة تصلح في موضع لا تصلح فيه الأخرى، فإذا تغيرت أو انتقلت عن موضعها اختل التأليف وتفاوت المعنى.

واعتمد الخطابي على تفاوت الشاعرين إذا هما تنازعا معنى واحداً، وعلى تميز كل شاعر في ناحية كالأعشى والاخطل في وصف الخمر وذي الرمة في صفة الأطلال والدمن؛ إلا انه استغل هذه المسألة لدحض المعارضة للقرآن وبيان قصورها، ولم يستغلها على طريقة الباقلاني، كما سنرى من بعد.

ولجأ الخطابي كما لجأ الرماني من قبله إلى الأثر النفسي فقال: " في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه غلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فانك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى، ما يخلص منه إليه،


(١) ثلاث رسائل: ٢٤.
(٢) نفسه: ٢٦.

<<  <   >  >>