الهجري؛ وإذا كان هذا النموذج من أرقاها فإن معظم النماذج الباقية إنما يتحدث عن شئون خارجة عن الشعر نفسه أو جزئية فيه، شئون متصلة بالعرف أو بالمعارف التي يتضمنها الشعر أو بلفظة معجبة هنا ولفظة غير معجبة هنالك أو ببيت محكم المعنى والسبك؟ الخ.
ولكن النقد في حقيقته تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفن عامة أو إلى الشعر خاصة يبدأ بالتذوق، أي القدرة على التمييز، ويعبر منها إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم - خطوات لا تغني إحداهما عن الأخرى، وهي متدرجة على هذا النسق؛ كي يتخذ الموقف نهجاً واضحاً، مؤصلاً على قواعد - جزئية أو عامة - مؤيداً بقوة الملكة بعد قوة التمييز؛ ومثل هذا المنهج لا يمكن أن يتحقق حين يكون أكثر تراث الأمة شفوياً، إذ الاتجاه الشفوي لا يمكن من الفحص والتامل، وإن سمح بقسط من التذوق والتأثر، ولهذا تأخر النقد المنظم حتى تأثلت قواعد التأليف الذي يهيئ المجال للفحص والتقليب والنظر.
والتأليف يخلق مجالاً للنقد صالحاً، ولكنه لا يستطيع أن يخلق وحده نقداً منظماً، بل لا بد هنالك من عوامل أخرى؛ واهم هذه العوامل جميعاً الإحساس بالتغير والتطور: في الذوق العام او في طبيعة الفن الشعري أو في المقاييس الأخلاقية التي يستند غليها الشعر أو في العادات والتقاليد التي يصورها أو في المستوى الثقافي ونوع الثقافة في فترة إثر أخرى أو في مجموعة من القيم على وجه التعميم؛ ذلك لان هذا الإحساس بالتغير والتطور هو الذي يلفت الذهن - أو ملكة النقد - إلى حدوث " مفارقة " ما، ولابد لهذه المفارقة أول الأمر من أن تكون ساطعة متباعدة الطرفين، حتى تمكن النظر الذي لم يألفها قبلاً من رؤيتها بوضوح. وقد كان سموق النماذج الشعرية الجاهلية ثم حركة الأحياء لتلك النماذج في العصر الأموي وبعض العصر العباسي واتخاذها قبلة للجميل أو الرائع من الشعر سبباً في حجب كل