للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ويمثل كتابه في " نظم القرآن " حلقة ما تزال مفقودة إذ نتوقع ان يكون للجاحظ فيه وبه نظرات نافذة في مجال النقد، حسبما تعودنا ان نجد في كتبه التي وصلتنا. لقد كان الجاحظ بما أوتى من علم وذكاء وشخصية متفردة من خير من يحسنون تأسيس النقد على أصول نظرية وتطبيقية، ولكنه شغل عنه بشئون أخرى كثيرة، واقتصر في الميدان النقدي على وقفات قصيرة معدودة تناولها الدارسون المعاصرون بالنظر والتحليل، وحاولوا أن يصوروا من خلالها مدى ما اسهم به في ذلك الميدان، فالعودة إليها - في هذا المقام - تشبه أن تكون تأكيداً لدور الجاحظ في النقد، مع محاولة لربط آرائه بالتيارات المعاصرة وإبرازها على نحو متكامل قدر المستطاع.

موقفه من الصراع بين القديم والحديث

لقد تقدم القول بان الجاحظ كان توفيقي النظرة لا يعتقد بتفضيل قديم على محدث، وهذا الرأي له نجده صريحاً في قوله: " وقد رأيت أناساً (منهم) يبهرجون أشعار المولدين ويستسقطون من رواها؛ ولم ار ذلك قط إلا في راوية للشعر غير بصير بجوهر ما يروي، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمن كان " (١) . وعندما تحدث عن أبي نواس قال: " وغن تأملت شعره فضلته إلا أن تعترض عليك فيه العصبية أو ترى أن أهل البدو أبداً اشعر وأن المولدين لا يقاربونهم في شيء، فإن اعتراض هذا الباب عليك فإنك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوباً " (٢) ؛ بل إن الجاحظ كان أشجع التوفيقيين عامة حين ذهب يفضل قصيدة لأبي نواس على قصيدة لمهلهل في الشاعرية (٣) .

فإذا تقدمنا بعد هذا إلى دراسة آراء الجاحظ النقدية، وجدنا اكثر


(١) الحيوان ٣: ١٣٠.
(٢) الحيوان ٢: ٢٧.
(٣) الحيوان ٣: ١٢٩.

<<  <   >  >>