للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

العلاقة بين الشعر والرسم

وبدأ الجاحظ نظرية أخرى كان من الممكن أن تفتح أمامه آفاقاً واسعة حين قال " فإنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ (١) وجنس من التصوير " فلو تخطى الجاحظ حدود التعريف لوجد نفسه في مجال المقارنة بين فنين: الشعر والرسم - بل إن تعريفه لا يخرج عن قول هوراس: " الشعر والرسم ". وإذن فربما هداه ذكاؤه إلى استبانة الفروق وضروب التشابه، ولكان لنا في هذا الباب حديث عن المحاكاة وتمايزها بين الفنون؟ الخ؛ ولكن كل ما أراده الجاحظ من هذا القول تأكيد نظريته في الشكل، وان المعول في الشعر إنما يقع على " إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك " (٢) ، وبهذا التحيز للشكل قلل الجاحظ من قيمة المحتوى وقال قولته التي طال تردادها: " والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي " (٣) .

نظرية المعاني المطروحة

لماذا اتجه الجاحظ هذا الاتجاه مع انه لم يكن من الشكليين في التطبيق؟ لهذا أسباب كثيرة منها أن الجاحظ لم يتابع أستاذه النظام في قوله بالصرفة تفسيراً للأعجاز، وإنما وجد ان الأعجاز لا يفسر إلا عن طريق النظم، ومن آمن بان النظم حقيق برفع البيان إلى مستوى الأعجاز لم يعد قادراً على أن يتبنى تقديم المعنى على اللفظ، ومنها ان عصر الجاحظ كان يشهد بوادر حملة عنيفة يقوم بها النقاد لتبيان السرقة في المعاني بين الشعراء، ولا


(١) في المتن: من النسيج؛ والصبغ أكثر انسجاماً، وهو ثابت في إحدى النسج، ولعل تغييره إنما تم لصعوبة المقارنة بين الشعر والصبغ، وكان ذلك من عمل النساخ من بعد فيما اقدر.
(٢) الحيوان ٣: ١٣١ - ١٣٢.
(٣) المصدر نفسه.

<<  <   >  >>