وكما قرر الإسلام حق إتلاف الخمر وما يتصل به، قرر أيضا عقوبة شاربها، وقصرها على الحاكم كذلك، وقد أجمعت الأمة سلفا وخلفا على مشروعية العقاب لشارب الخمر، وعلى أنه حق واجب على الحاكم المسلم، وقد ثبت ذلك بالمصدر الثاني من مصادر التشريع، وهو السنة كما أسلفنا.
ومن ذلك ما روى مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر، فجلد بجريدتين نحو الأربعين"، وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس بعد انتشار شربها بانتشار الفتح الإسلامي واختلاف المسلمين بغيرهم، فقيل له: أخف الحدود ثمانون في كتاب الله؛ إشارة إلى حد القذف، فجعل عمر الحد ثمانين، وكان صاحب هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ووافقت عليه الجماعة، وأصبح تشريعا منذ اليوم.
ومن ذلك ما روى أحمد والبخاري عن السائب بن زيد قال: كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إمْرة أبو بكر، وصدْر من إمارة عمر، فنتقدم إليه فنضربه بأيدينا ونعلنا وأرديتنا، حتى إذا عَقّوا فيها وفسدوا جلد عمر ثمانين.
بهذا أجمعت الأمة على تقرر عقوبة شارب الخمر، ولا نعلم خلافا في تقرر المبدأ، وإنما الخلاف في قدرها، وكيفيتها، وآلتها، وبذلك كانت نوعا من التعزير الذي يلزم به الحاكم.
وقد انتقل به عمر إلى الزيادة والمضاعفة نظرا لاختلاف أحوال الناس، وعملا على أن تؤتي العقوبة الغرض منها، وهي الردع والزجر، وتطهير المجتمع الإسلامي من مادة الدمار هذه.
وقد بلغ الاعتداد بعقوبة شرب الخمر أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لم يقف بها عند خصوص الشارب، بل أقام حدها على من شهد مجلس الشراب وإن لم يشرب.
وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية: رفع إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوم يشربون الخمر، فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم فلانا، وقد كان صائما لله ولم يشرب معهم، فقال: به ابدءوا؛ أما سمعتم الله يقول:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} الآية ١٤٠ من سورة النساء.