ما تفرق في المجاميع والبلاد والشيوخ، شكرا للنعمة به، فقد كنت أول تعاطي لهاته الصناعة، وإن كنت قليل البضاعة، نهما للأجلها، حريصا لالتقاط دررها، فرحلت لأقاصي البلدان وشاسع الأطراف والسكان، من حجاز ومصر وشام وتونس والجزائر وبلاد المغرب الأقصى حواضره وبواديه، وكاتبت أهل الجهات البعيدة كالعراق واليمن والهند واصطنبول وصحراء أفريقية شنجيط وغيره رغبه في الاستكثار، فحصل لي من ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد من أهل جيلنا وأقراننا، وعرفت من العالي والنازل، ما صلت به على كل قرين مناضل، وميزت الفرق بين المشرقي والمغربي عند الاشتباه، وحفظت الولادة والوفاة والنسبة مع انتباه، وجمعت من كتب ذلك وأوراقه ما لا يصدق به الأغمار، بعظيم الرغبة وواسع البذل وعزيز الوقت الذي يضن ببعضه قليل التبصر والاعتبار، وخدمني التوفيق والسعد في ذلك أكبر الخدمات، وأنالني الحظ بوافر القسمات، حتى إني لما لقيت مسند الشرق ورحالته، ولا ثاني، الشيخ أبا الخير أحمد بن عثمان العطار المكي الهندي في مكة المكرمة سنة ١٣٢٣ جثا بين يدي منصفا، وقال لي: شاركتني في تراجم المشارقة أهل بلادي وأسانيدهم ومعرفة خطوطهم واخبارهم، ولم أشاركك في أخبار أهل بلادك ولا لي اطلاع على تراجمهم وآثارهم. وكان الرجل المذكور والله بحرا متلاطم الأمواج في علم الرجال، واسع الدرايا عزيز النظير، لم أر له نظيرا فيمن رأيت أو سمعت به في عصرنا مشرقا ومغربا. والذي أراه كان يقرب منه في العناية وضبط الكثير من أدوات الرواية صديقنا الأستاذ الكبيرٍ الشيخ محمد المكي بن مصطفى بن عزور التونسي دفين الآستانة، فقد اعتنى أيضاً وجمع وقيد وكاتب وكتب وأشبع، ولو كان وفق للاعتناء بهذا الشأن وتتبعه من صغره لم يكن له فيه أيضا نظير في أثره وخبره. وعلى كل حال فقد كان مسند تونس وروايتها وجماعها ونادرتها، رحمهما الله رحمة واسعة، وأسدل على قبريهما سدال الرحمة والكرامة السابغة النافعة: