للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وفي العصر الحديث برز على ألسنة بعض نقاد الأدب ما يقف من هذه القوالب الأدبية في الكتابة الفنية، موقفا مغايرا. فهي عندهم دلائل صنعة لفظية ظلت تخنق الإبداع في النثر قرونا من الزمان، بما فيها من أشكال أدبية تشبه (الكليشهات) القديمة التي تفرض نفسها على الأسلوب الحديث. فإن بعض هذه التراكيب قد أصبحت مبتذلة لكثرة ترديد الأجيال لها, حتى صارت تفقد معناها من كثرة الاستعمال، فهل يعرف الناس المعنى الحقيقي لقولهم: "رفع عقيرته", وقولهم: "نسج على منواله", وقولهم: "الشمس في كبد السماء كدرهم"؟ ١.

وقد لاحظ أحد الباحثين أن بعض هذه التعبيرات قد أصبح مبتذلاً إما لكثرة الاستعمال كقولهم: "شط المزار" مثلاً، وإما لتغير العصور كوصف العاشق لفتاته بأنها واضحة الأنياب, وإما لعدم الوقوف على المناسبات الأولى لإطلاقها كقولهم: "رفع عقيرته"٢. ولاحظ أيضا أن ثمة تعبيرات لا يمكن الاستغناء عنها وعن ترديدها من مثل الكلمات الواضحة الدلالة التي اكتسبت عراقة الدوام مثل أسر الصبا وصروف الدهر ومثل الصفات الغالبة الباقية العقاب الكاسر، والبرج الشاهق ومن مثل تشبيهات الشعراء المتصلة بالعواطف الإنسانية الباقية مع الإنسان٣.

إن الباحث حينما ينظر في هذه الدعاوى يجد أن الدافع إلى هجر هذه التراكيب هو سيطرة الصنعة اللفظية على الكتابة منذ عهود القاضي الفاضل والحريري، بما فيها من إيثار للشكل وغرام بتزويق الألفاظ دونما احتفال بما تحتها من معانٍ. ولكن ما يمكن أن يكون متبعا للقديم، في عصر من العصور، لا ينبغي أن يكون سببا في الإزراء بكل ما خلفته جميع العصور من هذا اللون الأدبي. فليست العصور النثر الفني متصفة بأسرها بهذه الصفة. فلنبحث عن نثر فني ظهر في جيل وكان كبير التأثير في الناس، في عصره ولم يزل ذا تأثير مماثل إلى أيامنا هذه. وأول ما يخطر في البال في هذا الصدد الأسلوب القرآني المعجز الذي تكفل الله -جل وعلا- بحفظه مادامت السموات والأرض. ثم أتت من بعد ذلك عهود على النثر الفني كان رفيع القدر عالي التأثير في آثار كتاب العصر العباسي الأول الكثيرين. أفهل كان نثر الجاحظ والتوحيدي وابن العميد مطلقا من القوالب اللفظية؟ ولماذا جهد ابن السكيت والهمذاني وقدامة بن جعفر في التأليف في هذه القوالب وتدوينها وجمعها في أسر


١على النجدي ناصف في كتاب له عن اللغة والأدب، وزكي مبارك، النثر الفني ١/١٨٠.
٢ د. زكي مبارك، النقر الفني في القرن الرابع، دار الجيل،١/١٨٠ أيضاً.
٣ المرجع السابق ١/١٨١.

<<  <   >  >>