ثم يكون من أكثر الأعوان على إظهار السرِّ الاستعهاد له، والتحذير من نشره؛ فإن النهي أغرى؛ لأنه تكليف مشقة، والصبر على التكليف شديد، وهو حظرٌ، والنفس طيَّارة متقلِّبة، تعشق الإباحة وتغرم بالإطلاق.
ولعل رجلاً لو قيل له: لا تمسح يدك بهذا الجدار - وهو لم يمسحها به قطُّ - غرى بأن يفعل.
وكذلك ما حُدَّث به من السر فلم يؤمر بستره، لعله ألا يخطر بباله؛ لأنه موجود في طبائع الناس الولوع بكلِّ ممنوع، والضجر بكل محصول.
فنريد أن نعلم: لم صار الإنسان على ما منع - وإن كان لا ينفعه - أحرص منه على ما أبيح من غير علة ولا سبب إلا امتهان ما كثر عليه، واستطراف ما قلَّ عنده؟ ولم أقبل على من ولّى عنه وولَّى عمن أقبل عليه؟ ولم. قالوا: إذا جدَّت المسألة جدَّ المنع؟ وقال الشاعر:
الحر يُلحى والعصا للعبد ... وليس للمُلْحِف مثل الرَّدِّ
ولم صار يتمنَّى الشيء وينذر فيه النذور، ويتقطع إليه شوقاً، فإذا ظفر به صد عنه وأخلق عنه؟ ولم زهد الملوك فيما في أيديهم ورغبوا فيما في أيدي الناس؟
فنقول: إن الله تبارك وتعالى جعل لكل نفسٍ مبلغاً من الوسع لا يمكنها تجاوزه، ولا تتسع لأكثر منه. فكان معها فيما دون الوسع الفقر