كَفِعْلِ الزَّنَادِقَةِ، وَالْجُهَّالِ إِذَا أُمِرُوا أَوْ نُهُوا احْتَجُّوا بِالْقَدَرِ. وَقَدِ احْتَجَّ سَارِقٌ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقَدَرِ، فَقَالَ: وَأَنَا أَقْطَعُ يَدَكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ. يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة الْأَنْعَامِ: ١٤٨]. فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُمُ التَّكْذِيبُ، فَهُوَ مِنْ قَبْلِ الْفِعْلِ، مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْهُ؟ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَمَا يقولون فِي احْتِجَاجِ آدَمَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِالْقَدَرِ، إِذْ قَالَ لَهُ: أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ عَامًا؟ وَشَهِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ آدَمَ حَجَّ مُوسَى، أَيْ: غَلَبَ عليه بالحجة؟
قيل.: تتلقاه بِالْقَبُولِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، لِصِحَّتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولا تتلقاه بِالرَّدِّ وَالتَّكْذِيبِ لِرَاوِيهِ، كَمَا فَعَلَتِ الْقَدَرِيَّةُ، وَلَا بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَارِدَةِ, بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَحْتَجَّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَلَى الذَّنْبِ، وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ بِرَبِّهِ وَذَنْبِهِ، بَلْ آحَادُ بَنِيهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّهُ بَاطِلٌ. وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْلَمَ بِأَبِيهِ وَبِذَنْبِهِ [مِنْ] أَنْ يَلُومَ آدَمَ عَلَى ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اللَّوْمُ عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَخْرَجَتْ أَوْلَادَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَاحْتَجَّ آدَمُ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ، لَا عَلَى الْخَطِيئَةِ، فَإِنَّ الْقَدَرَ يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، لَا عِنْدَ الْمَعَائِبِ, وَهَذَا الْمَعْنَى أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ, فَمَا قُدِّرَ مِنَ الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الرِّضَى بِاللَّهِ رَبًّا، وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُذْنِبَ، وَإِذَا أَذْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ, فَيَتُوبَ مِنَ الْمَعَائِبِ، وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَصَائِبِ. قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [سورة الْمُؤْمِنِ: ٥٥]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [سورة آلِ عِمْرَانَ: ١٢٠].
وَأَمَّا قَوْلُ إِبْلِيسَ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}، إِنَّمَا ذُمَّ عَلَى احْتِجَاجِهِ بِالْقَدَرِ، لَا عَلَى اعْتِرَافِهِ بِالْمُقَدَّرِ وَإِثْبَاتِهِ لَهُ. أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. ولقد أحسن القائل:
فما شئتَ كان [و] إن لَمْ أَشَأْ ... وَمَا شئتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ قَالَ: نَظَرْتُ فِي الْقَدَرِ فَتَحَيَّرْتُ، ثُمَّ نَظَرْتُ فيه
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute