للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جَمِيعَهَا، لَا يَخْلُقُهَا اللَّهُ فَأَخْرَجُوهَا مِنْ عُمُومِ "كَلٍّ"، وَأَدْخَلُوا كَلَامَ اللَّهِ فِي عُمُومِهَا، مَعَ أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، بِهِ تَكُونُ الْأَشْيَاءُ الْمَخْلُوقَةُ، إِذْ بِأَمْرِهِ تَكُونُ الْمَخْلُوقَاتُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [سورة الْأَعْرَافِ: ٥٣]. فَفَرَّقَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا بِأَمْرٍ آخَرَ، وَالْآخَرُ بِآخَرَ، إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَطَرْدُ بَاطِلِهِمْ: أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ صِفَاتِهِ تَعَالَى مَخْلُوقَةً، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ صَرِيحُ الْكُفْرِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ شَيْءٌ، وَقُدْرَتَهُ شَيْءٌ، وَحَيَاتَهُ شَيْءٌ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي عُمُومِ كُلٍّ، فَيَكُونُ مَخْلُوقًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ؟ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْدَثَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْجَمَادَاتِ كَلَامَهُ! وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا خَلَقَهُ فِي الْحَيَوَانَاتِ، لَا يُفَرَّقُ حِينَئِذٍ بَيْنَ نَطَقَ وَأَنْطَقَ. وَإِنَّمَا قالت الجلود: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [سورة فُصِّلَتْ: ٢١]، وَلَمْ تَقُلْ: نَطَقَ اللَّهُ، بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكُلِّ كَلَامٍ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ، زُورًا كَانَ أَوْ كَذِبًا أَوْ كُفْرًا أَوْ هَذَيَانًا!! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ طَرَّدَ ذَلِكَ الِاتِّحَادِيَّةُ، فَقَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ:

وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ

وَلَوْ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ أَحَدٌ بِصِفَةٍ قَامَتْ بِغَيْرِهِ، لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ لِلْبَصِيرِ: أَعْمَى، وَلِلْأَعْمَى: بَصِيرٌ! لِأَنَّ الْبَصِيرَ قَدْ قَامَ وَصْفُ الْعَمَى بِغَيْرِهِ، وَالْأَعْمَى قَدْ قَامَ وَصْفُ الْبَصَرِ بِغَيْرِهِ! وَلَصَحَّ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّفَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ، مِنَ الْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَبِمِثْلِ ذَلِكَ أَلْزَمَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُونِ١، بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمَ مَعَهُ مُلْتَزِمًا أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ نَصِّ التَّنْزِيلِ، وألزمه الحجة، فقال بشر:


١ عبد العزيز المكي: هو عبد العزيز بن يحيى الكتاني، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي, قدم بغداد أيام المأمون، وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرة في خلق القرآن، بحضرة الخليفة المأمون، وصنف كتاب "الحيدة" أثبت فيه نص مناظرته لبشر لكن في ثبوت هذه المناظرة نظر فإنه تفرد بروايتها محمد بن الحسن بن أزهر الدعاء، وقد اتهمه الخطيب بأنه يضع الحديث وذكر الذهبي أنه هو الذي وضعها، فراجع "الميزان" "٣/ ٤٤" و"طبقات السبكي" "١/ ٢٦٥".

<<  <   >  >>