شَاعِرٍ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَرَفُوا مَعْنَاهُ، كَمَا عَرَفُوا مُسَمَّى الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ تَعَالَى وَإِنَّ الْمَتْلُوَّ الْمَحْفُوظَ الْمَكْتُوبَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْقَارِئِ حِكَايَةُ كَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ؛ فَقَدْ قَالَ بِخَلْقِ القرآن وهو لا يشعر، فإن الله يَقُولُ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الْإِسْرَاءِ: ٨٨]. أَفَتُرَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُشِيرُ إِلَى مَا فِي نَفْسِهِ أَوْ إِلَى الْمَتْلُوِّ الْمَسْمُوعِ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِنَّمَا هِيَ إِلَى هَذَا الْمَتْلُوِّ الْمَسْمُوعِ، إِذْ مَا فِي ذَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مُشَارٍ إِلَيْهِ، وَلَا مُنَزَّلٍ وَلَا مَتْلُوٍّ وَلَا مَسْمُوعٍ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} أَفَتُرَاهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِ مَا فِي نَفْسِي مِمَّا لَمْ يَسْمَعُوهُ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، وما في نفس الله عَزَّ وَجَلَّ لَا حِيلَةَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَلَا إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا أَشَارَ إِلَى حِكَايَةِ مَا فِي نَفْسِهِ وَعِبَارَتِهِ وَهُوَ الْمَتْلُوُّ الْمَكْتُوبُ الْمَسْمُوعُ، فَأَمَّا أَنْ يُشِيرَ إِلَى ذَاتِهِ فَلَا, فَهَذَا صَرِيحُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، بَلْ هُمْ فِي ذَلِكَ أَكْفَرُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ حِكَايَةَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ وَشَبَهِهِ, وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ مَحْكِيَّةٌ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ التِّلَاوَةُ حِكَايَةً لَكَانَ النَّاسُ قَدْ أَتَوْا بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ، فَأَيْنَ عَجْزُهُمْ؟! وَيَكُونُ التَّالِي -فِي زَعْمِهِمْ- قَدْ حَكَى بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ مَا لَيْسَ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ, وَلَيْسَ الْقُرْآنُ إِلَّا سُوَرًا مُسَوَّرَةً، وَآيَاتٍ مُسَطَّرَةً، فِي صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ. قَالَ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هُودٍ: ١٣]. {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٩]. {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: ١٣, ١٤]. ويكتب لمن قرأ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ "الم" حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ" ١. وَهُوَ الْمَحْفُوظُ فِي صُدُورِ الْحَافِظِينَ الْمَسْمُوعُ مِنْ أَلْسُنِ التَّالِينَ. قَالَ الشَّيْخُ حَافِظُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي "الْمَنَارِ": إِنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالْمَعْنَى, وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ, وَمَا يُنْسَبُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ رحمه
١ صحيح، أخرجه الترمذي وابن ماجه، والآجري في "آداب حملة القرآن" بسند صحيح، وهو مخرج في "المشكاة" أيضا "٢١٣٧".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute