عَنْ دِينِ اللَّهِ. قَالَ: وَإِلَى التَّحْرِيمِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَسُفْيَانُ وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنَ السَّلَفِ وَسَاقَ الْأَلْفَاظَ عَنْ هَؤُلَاءِ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنَ السَّلَفِ عَلَى هَذَا. لَا يَنْحَصِرُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ فِيهِ، قَالُوا: مَا سَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ مَعَ أَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِالْحَقَائِقِ وَأَفْصَحُ بِتَرْتِيبِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِهِمْ إِلَّا لِمَا يَتَوَلَّدُ منه من الشر. وكذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ" ١. أَيِ الْمُتَعَمِّقُونَ فِي الْبَحْثِ وَالْاسْتِقْصَاءِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنَ الدِّينِ لَكَانَ أَهَمَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعْلَمُ طَرِيقُهُ وَيُثْنِي عَلَى أَرْبَابِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ اسْتِدْلَالِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ اسْتِدْلَالَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ. إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الْمُخْتَارُ عِنْدَكَ؟ فَأَجَابَ بِالتَّفْصِيلِ، فَقَالَ: فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَفِيهِ مَضَرَّةٌ: فَهُوَ فِي وَقْتِ الْانْتِفَاعِ حَلَالٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ وَاجِبٌ، كَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ. وَهُوَ بِاعْتِبَارِ مَضَرَّتِهِ فِي وَقْتِ الْاسْتِضْرَارِ وَمَحِلِّهِ حَرَامٌ. قَالَ: فَأَمَّا مَضَرَّتُهُ، فَإِثَارَةُ الشُّبُهَاتِ، وَتَحْرِيفُ الْعَقَائِدِ وَإِزَالَتُهَا عَنِ الْجَزْمِ وَالتَّصْمِيمِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْابْتِدَاءِ، وَرُجُوعُهَا بِالدَّلِيلِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَيَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَشْخَاصُ. فَهَذَا ضَرَرُهُ فِي اعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَلَهُ ضَرَرٌ فِي تَأْكِيدِ اعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ، وَتَثْبِيتِهَا فِي صُدُورِهِمْ، بِحَيْثُ تَنْبَعِثُ دَوَاعِيهِمْ وَيَشْتَدُّ حِرْصُهُمْ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الضَّرَرَ بِوَاسِطَةِ التَّعَصُّبِ الَّذِي يَثُورُ مِنَ الْجَدَلِ. قَالَ: وَأَمَّا مَنْفَعَتُهُ، فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ فَائِدَتَهُ كَشْفُ الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيئتها، فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ وَفَاءٌ بِهَذَا الْمَطْلَبِ الشَّرِيفِ، ولعل التخبيط والتضليل أَكْثَرُ مِنَ الْكَشْفِ وَالتَّعْرِيفِ. قَالَ: وَهَذَا إِذَا سَمِعْتَهُ مِنْ مُحَدِّثٍ أَوْ حَشْوِيٍّ رُبَّمَا خَطَرَ بِبَالِكَ أَنَّ النَّاسَ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا، فَاسْمَعْ هَذَا مِمَّنْ خَبَرَ الْكَلَامَ، ثُمَّ قَالَهُ بَعْدَ حَقِيقَةِ الْخِبْرَةِ وَبَعْدَ التَّغَلْغُلِ فِيهِ إِلَى مُنْتَهَى دَرَجَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى التَّعَمُّقِ فِي عُلُومٍ أُخَرَ سِوَى نَوْعِ الْكَلَامِ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى حَقَائِقِ الْمَعْرِفَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَسْدُودٌ. وَلَعَمْرِي لَا يَنْفَكُّ الْكَلَامُ عَنْ كَشْفٍ وَتَعْرِيفٍ وَإِيضَاحٍ لِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَكِنْ عَلَى النُّدُورِ. انْتَهَى مَا نَقَلْتُهُ عَنِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَلَامُ مِثْلِهِ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ بَالِغَةٌ، وَالسَّلَفُ لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحا
١ مسلم، من حديث ابن مسعود وهو مخرج في "غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام" "رقم ٧".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute