للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الْأَنْعَامِ: ٥٤]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طَهَ: ٤١]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آلِ عِمْرَانَ: ٢٨]. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ لَمَّا يَأْتِي النَّاسُ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ: "خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ" ١، الْحَدِيثَ. وَلَا يَصِحُّ تَأْوِيلُ مَنْ قال: إن المراد باليد: بالقدرة، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: ٧٥]. لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِقُدْرَتِي مَعَ تَثْنِيَةِ الْيَدِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَقَالَ إِبْلِيسُ: وَأَنَا أَيْضًا خَلَقْتَنِي بِقُدْرَتِكَ، فَلَا فَضْلَ لَهُ عَلَيَّ بِذَلِكَ. فَإِبْلِيسُ -مَعَ كُفْرِهِ- كَانَ أَعْرَفَ بِرَبِّهِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ, وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: ٧١]؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَمْعَ الْأَيْدِي لَمَّا أَضَافَهَا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ، لِيَتَنَاسَبَ الْجَمْعَانِ، فَاللَّفْظَانِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الملك والعظمة, ولم يقل: أيدي مضافا إِلَى ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ، وَلَا يَدَيْنَا بِتَثْنِيَةِ الْيَدِ مضافا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ, فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} نَظِيرَ قَوْلِهِ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي}. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "حِجَابُهُ النُّورُ، وَلَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" ٢.

وَلَكِنْ لَا يُقَالُ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ إِنَّهَا أَعْضَاءٌ، أَوْ جَوَارِحٌ، أَوْ أَدَوَاتٌ، أَوْ أَرْكَانٌ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ جُزْءُ الْمَاهِيَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، لَا يَتَجَزَّأُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْأَعْضَاءُ فِيهَا مَعْنَى التَّفْرِيقِ وَالتَّعْضِيَةِ٣، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ} [الْحِجْرِ: ٩١]. وَالْجَوَارِحُ فِيهَا مَعْنَى الِاكْتِسَابِ وَالِانْتِفَاعِ, وَكَذَلِكَ الْأَدَوَاتُ هِيَ الْآلَاتُ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ, وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنْتَفِيَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهَا فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى, فَالْأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ صَحِيحَةُ الْمَعَانِي، سَالِمَةٌ من الاحتمالات الفاسدة،


١ صحيح، أخرجه البخاري "٤/ ٤٥٤، ٤٦٤" وأحمد "٣/ ١١٦" في حديث الشفاعة من حديث أنس، وسيأتي بلفظ آخر. "ص٢٢٩".
٢ صحيح، وقد تقدم بتمام "برقم ٥٢ و١٧١".
٣ التعضية: "التقطيع، وجعل الشيء أعضاء".

<<  <   >  >>