ش: هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ بِالْكَائِنَاتِ، وَأَنَّهُ قَدَّرَ مَقَادِيرَهَا قَبْلَ خَلْقِهَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخلق قبل أن يخلق السموات وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ" ١. فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَصِيرُ مَوْجُودَةً لِأَوْقَاتِهَا، عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ [فَكَانَتْ كَمَا عَلِمَ]. فَإِنَّ حُصُولَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ غَرَائِبِ الْحِكَمِ لَا يتصور إِلَّا مِنْ عَالِمٍ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ عَلَى إِيجَادِهَا, قَالَ تَعَالَى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الْمُلْكِ: ١٤]. وَأَنْكَرَ غُلَاةُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ كَانَ عَالِمًا فِي الْأَزَلِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ [حَتَّى يَفْعَلُوا]! تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كبيرا. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: نَاظِرُوا الْقَدَرِيَّةَ بِالْعِلْمِ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ خُصِمُوا، وإن أنكروا كفروا. فإن الله [تَعَالَى] يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُسْتَطِيعٌ يَفْعَلُ مَا اسْتَطَاعَهُ فَيُثِيبُهُ، وَهَذَا مُسْتَطِيعٌ لَا يَفْعَلُ مَا اسْتَطَاعَهُ فَيُعَذِّبُهُ، فَإِنَّمَا يُعَذِّبُهُ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ لَا يَأْمُرُهُ وَلَا يُعَذِّبُهُ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ.
وَإِذَا قِيلَ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْفِعْلِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ؟ قِيلَ: هَذِهِ مُغَالَطَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مُجَرَّدَ مَقْدِرَتِهِ عَلَى الْفِعْلِ لَا تَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ إِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ، وَلَوْ وَقَعَ الْفِعْلُ لَكَانَ الْمَعْلُومُ وُقُوعَهُ لَا عَدَمَ وُقُوعِهِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، بَلْ إِنْ وَقَعَ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ, وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ عِلْمَ اللَّهِ إِلَّا بِمَا يَظْهَرُ، وَعِلْمُ اللَّهِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ يَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ، بَلْ أَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ كَانَ هُوَ الْمَعْلُومَ، وَالْعَبْدُ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُغَيِّرُ الْعِلْمَ، [بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلٍ لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ، لا أنه لا يقع.
وإذا قيل: فمن عَدَمِ وُقُوعِهِ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَلَوْ قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى وُقُوعِهِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْعِلْمِ]؟ قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ الْعَبْدُ يَقْدِرُ عَلَى وُقُوعِهِ وَهُوَ لَمْ يُوقِعْهُ، وَلَوْ أَوْقَعَهُ لَمْ يَكُنِ الْمَعْلُومُ إِلَّا وُقُوعَهُ، [فَمَقْدُورُ الْعَبْدِ إِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنِ الْمَعْلُومُ
١ صحيح، وتقدم بالحديث "رقم ٨٠".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute