للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُهُ وَأَحْكَمُهُ دُعَاءَ الْفَاتِحَةِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الْفَاتِحَةِ: ٥ - ٧]. فَإِنَّهُ إِذَا هَدَاهُ هَذَا الصِّرَاطَ أَعَانَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ، فَلَمْ يُصِبْهُ شَرٌّ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ, لَكِنَّ الذُّنُوبَ هِيَ لَوَازِمُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْهُدَى كُلَّ لَحْظَةٍ، وَهُوَ إِلَى الْهُدَى أَحْوَجُ مِنْهُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ, لَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ قَدْ هَدَاهُ! فَلِمَاذَا يَسْأَلُ الْهُدَى؟! وَإِنَّ الْمُرَادَ التَّثْبِيتُ، أَوْ مَزِيدُ الْهِدَايَةِ! بَلِ الْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِ، وَإِلَى مَا يَتْرُكُهُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأُمُورِ، فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَإِلَى أَنْ يُلْهِمَهُ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ, فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ عِلْمِهِ إِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مُرِيدًا لِلْعَمَلِ بِمَا يَعْلَمُهُ، وَإِلَّا كَانَ الْعِلْمُ حجة عليه، ولم يكن مهتديا, ومحتاج إلى أن يجعله قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ الصَّالِحَةِ، فَإِنَّ الْمَجْهُولَ لَنَا مِنَ الْحَقِّ أَضْعَافُ الْمَعْلُومِ، وَمَا لَا نُرِيدُ فِعْلَهُ تَهَاوُنًا وَكَسَلًا مِثْلُ مَا نُرِيدُهُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ، وَمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِمَّا نُرِيدُهُ كَذَلِكَ، وَمَا نَعْرِفُ جُمْلَتَهُ وَلَا نَهْتَدِي لِتَفَاصِيلِهِ فَأَمْرٌ يَفُوتُ الْحَصْرَ, وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْهِدَايَةِ التَّامَّةِ، فَمَنْ كَمُلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ سُؤَالُهُ سُؤَالَ تَثْبِيتٍ، وَهِيَ آخِرُ الرُّتَبِ, وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ هِدَايَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الْهِدَايَةُ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ مَأْمُورِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، لِفَرْطِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَيْسُوا إِلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ. فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ جَعَلَ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْخَيْرِ، الْمَانِعَةِ مِنَ الشَّرِّ، فَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنَ النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْحَسَنَاتِ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى, وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُشكر سُبْحَانَهُ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَهُ الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَأَلَّا يَتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، فَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ, فَأَوْجَبَ ذَلِكَ تَوْحِيدَهُ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَالشُّكْرَ لَهُ وَحْدَهُ، وَالِاسْتِغْفَارَ مِنَ الذُّنُوبِ.

وَهَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُهَا فِي الصَّلَاةِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ يَقُولُ: "رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ" ١. "مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بعد, أهل


١ البخاري، لكن ليس من فعله صلى الله عليه وسلم، بل إنه سمع رجلا يقول ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أولا". انظر كتابي "صفة الصلاة" "ص١١٩".

<<  <   >  >>