للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَلَيْسَ السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ لِلرُّوحِ وَحْدَهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، وَأَفْسَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لِلْبَدَنِ بِلَا رُوحٍ! وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَرُدُّ الْقَوْلَيْنِ, وَكَذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ يَكُونُ لِلنَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا، بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، تَنْعَمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُفْرَدَةً عَنِ الْبَدَنِ وَمُتَّصِلَةً بِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ هُوَ عَذَابُ الْبَرْزَخِ، فَكُلُّ مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ نَالَهُ نَصِيبُهُ مِنْهُ، [قُبِرَ أَوْ لَمْ يُقْبَرْ]، أَكَلَتْهُ السِّبَاعُ أَوِ احْتَرَقَ حَتَّى صَارَ رَمَادًا وَنُسِفَ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ صُلِبَ أَوْ غَرِقَ فِي الْبَحْرِ, وَصَلَ إِلَى رُوحِهِ وَبَدَنِهِ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَصِلُ إِلَى الْمَقْبُورِ, وَمَا وَرَدَ مِنْ إِجْلَاسِهِ وَاخْتِلَافِ أَضْلَاعِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ, فَيَجِبُ أَنْ يُفْهَمَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادُهُ مِنْ [غَيْرِ] غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، فَلَا يُحَمَّلُ كَلَامُهُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَلَا يُقَصَّرُ بِهِ عَنْ مُرَادِهِ وَمَا قَصَدَهُ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ، فَكَمْ حَصَلَ بِإِهْمَالِ ذَلِكَ وَالْعُدُولِ عَنْهُ مِنَ الضَّلَالِ وَالْعُدُولِ عَنِ الصَّوَابِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ, بَلْ سُوءُ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَصْلُ كُلِّ بِدْعَةٍ وَضَلَالَةٍ نَشَأَتْ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَطَأٍ فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ سُوءُ الْقَصْدِ, وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الدور ثلاث: دَارُ الدُّنْيَا، وَدَارُ الْبَرْزَخِ، وَدَارُ الْقَرَارِ, وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ دَارٍ أَحْكَامًا تَخُصُّهَا، وَرَكَّبَ هَذَا الْإِنْسَانَ مِنْ بَدَنٍ وَنَفْسٍ، وَجَعَلَ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الْأَبْدَانِ، وَالْأَرْوَاحُ تَبَعٌ لَهَا، وَجَعَلَ أَحْكَامَ الْبَرْزَخِ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَالْأَبْدَانُ تَبَعٌ لَهَا، فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَقِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ, صَارَ الْحُكْمُ وَالنَّعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ جَمِيعًا, فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا الْمَعْنَى حَقَّ التَّأَمُّلِ، ظَهَرَ لَكَ أَنَّ كَوْنَ الْقَبْرِ روضة من رياض الجنة أو حفرة من حُفَرِ النَّارِ مُطَابِقٌ لِلْعَقْلِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ١ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَبِذَلِكَ يَتَمَيَّزُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّارَ الَّتِي فِي الْقَبْرِ وَالنَّعِيمَ، لَيْسَ مِنْ جِنْسِ نَارِ الدُّنْيَا وَلَا نَعِيمِهَا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْمِي عَلَيْهِ التُّرَابَ وَالْحِجَارَةَ الَّتِي فَوْقَهُ وَتَحْتَهُ حَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَ حَرًّا مِنْ جَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَوْ مَسَّهَا أَهْلُ الدُّنْيَا لَمْ يُحِسُّوا بِهَا. بَلْ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ يُدْفَنُ أَحَدُهُمَا إِلَى جَنْبِ صَاحِبِهِ، وَهَذَا فِي حُفْرَةٍ من النار، وهذا في روضة


١ في الأصل: لاحق.

<<  <   >  >>