وَالَّذِي قَالَهُ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ]: أَنَّ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهَذِهِ قَدْ تَكُونُ قَبْلَهُ، لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ، وَالْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا الْفِعْلُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ الْفِعْلُ بِقُدْرَةٍ مَعْدُومَةٍ.
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ، وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ, فَقَدْ تَتَقَدَّمُ الْأَفْعَالَ, وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آلِ عِمْرَانَ: ٩٧]. فَأَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا مَنْ حَجَّ لَمْ يَكُنِ الْحَجُّ قَدْ وَجَبَ إِلَّا على من حج، ولم يعاقب أحدا عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ! وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ, وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغَابُنِ: ١٦] , فَأَوْجَبَ التَّقْوَى بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَلَوْ كَانَ مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ لَمْ يَسْتَطِعِ التَّقْوَى، لَمْ يَكُنْ قَدْ أَوْجَبَ التَّقْوَى إِلَّا عَلَى مَنِ اتَّقَى، وَلَمْ يُعَاقِبْ مَنْ لَمْ يَتَّقِ! وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ, وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [الْمُجَادَلَةِ: ٤] , وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِطَاعَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَكَذَا مَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التَّوْبَةِ: ٤٣] , وَكَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَلَوْ كَانُوا أَرَادُوا الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ قُدْرَةِ الْفِعْلِ, مَا كَانُوا بِنَفْيِهِمْ عن أنفسهم كاذبين، وحيث كذبهم دل "على" أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ الْمَرَضَ أَوْ فَقْدَ الْمَالِ، عَلَى مَا بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} [التَّوْبَةِ: ٩١]، إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} [التَّوْبَةِ: ٩٣]. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النِّسَاءِ: ٢٥]. وَالْمُرَادُ: اسْتِطَاعَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: "صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب" ١. إنما نفى استطاعة الفعل معها.
وأما ثُبُوتِ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ، فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هُودٍ: ٢٠]. وَالْمُرَادُ نَفْيُ حقيقة
١ البخاري وغيره "صفة الصلاة" "ص٥٨, الطبعة الحادية عشرة".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute