للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَقَوْلُهُمْ: إِنِ اقْتَضَتِ الْمَشِيئَةُ الْمَطْلُوبَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ؟ قُلْنَا: بَلْ قَدْ تَكُونُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، مِنْ تَحْصِيلِ مَصْلِحَةٍ أُخْرَى عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ، وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ أُخْرَى عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ, وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ؟ قُلْنَا: بَلْ فِيهِ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ، مِنْ جَلْبِ مَنَافِعَ، وَدَفْعِ مَضَارَّ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ مَا يُعَجِّلُ لِلْعَبْدِ، مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ، وَإِقْرَارِهِ بِهِ، وَبِأَنَّهُ سُمَيْعٌ قَرِيبٌ قَدِيرٌ عَلِيمٌ رَحِيمٌ، وَإِقْرَارِهِ بِفَقْرِهِ إِلَيْهِ وَاضْطِرَارِهِ إِلَيْهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَالِبِ, فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ إِعْطَاءُ اللَّهِ معللا بفعل العبد، كما يفعل مِنْ إِعْطَاءِ الْمَسْئُولِ لِلسَّائِلِ، كَانَ السَّائِلُ قَدْ أَثَّرَ فِي الْمَسْئُولِ حَتَّى أَعْطَاهُ؟! قُلْنَا: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي حَرَّكَ الْعَبْدَ إِلَى دُعَائِهِ، فَهَذَا الْخَيْرُ مِنْهُ، وَتَمَامُهُ عَلَيْهِ, كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ، وَإِنَّمَا أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ، وَلَكِنْ إِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ, وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الم السجدة: ٥]. فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير [الأمر]، ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ الَّذِي دَبَّرَهُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقْذِفُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ حَرَكَةَ الدُّعَاءِ، وَيَجْعَلُهَا سَبَبًا لِلْخَيْرِ الَّذِي يُعْطِيهِ إِيَّاهُ، كَمَا فِي الْعَمَلِ وَالثَّوَابِ، فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعَبْدَ لِلتَّوْبَةِ ثُمَّ قَبِلَهَا، [وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ ثُمَّ أَثَابَهُ]، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أَجَابَهُ، فَمَا أَثَّرَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، بَلْ هُوَ جَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ سَبَبًا لِمَا يَفْعَلُهُ, قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ: نَظَرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَوَجَدْتُ مَبْدَأَهُ مِنَ اللَّهِ، وَتَمَامَهُ عَلَى اللَّهِ، وَوَجَدْتُ مِلَاكَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ.

وَهُنَا سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَدْ يَسْأَلُ اللَّهَ فَلَا يُعْطَى شَيْئًا، أَوْ يُعْطَى غَيْرَ مَا سَأَلَ؟ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ، فِيهَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ مُحَقَّقَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ عَطِيَّةَ السُّؤَالِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا تَضَمَّنَتْ إِجَابَةَ الدَّاعِي، وَالدَّاعِي أَعَمُّ مِنَ السَّائِلِ، وَإِجَابَةُ الدَّاعِي أَعَمُّ مِنْ إِعْطَاءِ السَّائِلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ " ١, فَفَرْقٌ بَيْنَ


١ صحيح متواتر، ذكرت بعض طرقه "إرواء الغليل" "٤٥٠".

<<  <   >  >>