و (*) لمحمد بن عبد الملك الزيَّات في هذا المعنى:
أُصلِّي إلى الوجه الَّذي تسكنينَه ... وإن لم يكن سمتا لقصد صلاتيا
وأجعلُ تسبيحي دموعاً أسرُّها ... عليكِ وإدمانَ الحنين قُرانيا
وشبيه بهذا المعنى قول عبَّاس المَصِّيصيّ يهجو إماماً:
إذا صلَّى بنا بكر بن يحيى ... تفكَّرَ في الَّذي يقْرا سِنينا
ويشغله الهوَى عنَّا فيأتي ... بلفظٍ يُخرج الدَّاءَ الدَّفينا
وربَّتما تفكّرَ في الغواني ... فأنَّ وأتبعَ النَّفَسَ الحنينا
لقد حُرمتْ بلادٌ صارَ فيها ... إماماً واللّصوصُ مؤذِّنينا
وله مثله:
إذا صلَّى بنا عُمرُ ... فليسَ تُطيعُه السُّوَرُ
تراهُ إذا تقدَّمنا ... وقد دارتْ به الفِكرُ
يئنُّ أنينَ ذي شَغَف ... بظبيٍ زانَهُ الحَوَرُ
وليس بعاشقٍ أحداً ... ولكنْ همُّه البِدَرُ
وقال ابن الدُّمَيْنة:
ألا خليليَّ اتْبَعاني لتُؤجَرا ... ولنْ تكسِبا خَيراً منَ الحمدِ والأجرِ
فقالا اتَّقِ اللهَ الجليلَ فإنَّما ... تُصَلِّيك أسبابُ الهوَى وهَجَ الجمرِ
فقلتُ أَطيعاني فليس عليكما ... حسابي إذا لاقيتُ ربِّي ولا وِزرِي
أتحرقُني يا ربِّ إنْ عُجتُ عَوجةً ... على رَخصةِ الأطرافِ طيِّبةِ النَّشرِ
ضِناكِ مَلاثِ الدّرعِ أمَّا وشاحُها ... فيَجري وأما الحليُ فيها فلا تجرِي
وأنذرُ للرَّحمن ما كنتُ آثِماً ... فهلْ أنتَ يا ربَّ العُلى قابلٌ نذرِي
صياماً وحجّاً ماشياً وهديَّةً ... أُوافي بها يومَ الذَّبائحِ والنَّحرِ
قال الزبير: كان ابن الدُّمَيْنة مع غزله ورقَّة شعره فارساً شجاعاً وقتل في الحرب الَّتي كانت بين خثعم وسلول، وهو كان الأصل فيها، وذاك أنَّ مزاحم ابن عمرو السلولي كان يهوى حماء بنت مالك امرأة ابن الدُّمَيْنة ويُكثر زيارتها والخلوة معها ثمَّ إنَّها هاجرته لشيء وقع بينهما فقال يهجوها ويعرِّض بابن الدُّمَيْنة:
يا بنَ الدُّمَيْنة كم من طعنةٍ نَفَذٍ ... يعوِي خلافَ انتزاعِ الجَوفِ عاويها
جاهدتُ فيكم بها إنِّي لكم ولدٌ ... أبغِي مساويَكم قِدماً فآتيها
بآيةِ الخالِ منها دون سُرَّتها ... وفوقَ رُكبتها في وقت آتيها
وشهقةٍ تعتَريها عند لذَّتها ... لكيَّةٍ أُنضجتْ لا شلَّ كاويها
فنمى هذا الشعر فبلغ ابن الدُّمَيْنة فقال لامرأته: يا جمَّاء قد بلغني أنَّ مزاحماً يأتيك ويقول الشِّعر فيك، فأنكرت ذلك، فقال لها: أُعْطي الله عهداً إن لم تمكِّني منه لأقتلنَّك، فعلمت أنَّه سيَفي، فصالحت مزاحماً وواعدته، فجاءها ليلاً فكلَّمها وهي في مظلَّتها وابن الدُّمَيْنة معها فلم تكلِّمه، فقال: الخفر اللَّيلة يا جمَّاء، فقالت بصوت ضعيف: أُدخل، فدخل وأهوى بيده إليها فأخذت يده فوضعتها في يد ابن الدُّمَيْنة، فقبض عليه - وكان ابن الدُّمَيْنة أيِّداً - وتركه تحته وكان قد أعدَّ ثوباً فيه بطحاء من الرَّمل كثيرة الحصى ليقتله بها خوفاً أن يظهر فيه أثر السلاح فيُطلب بدمه ورجاء أن ينكتم خبره، فما زال يضرب بالبطحاء بطنه حتَّى قتله، ثمَّ أخذ قطيفةً كانت له وجعلها على وجه جمَّاء وحبس عليها حتَّى ماتت وقال:
إذا قعدتُ على عِرنين جاريةٍ ... تحت القطيفة فادْعُوا لِي بحفَّارِ
فبكت بنيَّةٌ كانت لها من ابن الدُّمَيْنة فأخذها وضرب بها الأرض، فقال متمثّلاً: " لا تتَّخذ من كلب سَوءٍ جَرْوا " ثمَّ دفن امرأته وابنته وأخرج مزاحماً فطرحه ناحيةً من مظلَّته وقال:
لكَ الخيرُ إنْ واعدتَ جمَّاء فالْقَها ... نهاراً ولا تدلج إذا اللَّيلُ أظْلَما
فإنَّك لا تدرِي أبيضاءَ طَفلةً ... تُعانقُ أمْ لَيثاً من القومِ شَدْقَما
فلمَّا سرَى عن ساعديَّ ولمَّتي ... وأيقنَ أنِّي لستُ جمَّاء جَمْجَما
قال: وأصبح أهل مزاحم يقفون أثره حتَّى وقعوا عليه قتيلاً فبحثوا عن الخبر حتَّى وقفوا على صحَّته وعلموا أنَّ ابن الدُّمَيْنة قتل صاحبهم فوقعت الحرب بينهم لذلك ومكثتْ مدَّة طويلة وقُتل من الفريقين جماعة ثمَّ اصطلحوا، وكان لمزاحم أخٌ يقال له مصعب بن عمرو وكان لمَّا قُتل أخوه مزاحم صغيراً فقالت أُمُّه تذكُر قتل ابنها مزاحم وترثيه:
بنفسي ومالي ثمَّ عمِّي ووالدي ... قتيلُ بني تَيْمٍ بغير سلاحِ
فلا تطمعوا في الصّلح ما دمتُ حيَّةً ... ودام صحيحاً مصعب بن جناحِ
تريد بجناح جدَّها. قال مصعب بن عمرو، وهو قاتل ابن الدُّمَيْنة: لمَّا كبرت قالت لي أُمِّي: إذهب فاقتُل ابن الدُّمَيْنة قاتل أخيك فإنَّه يهجو قومك وقد طُلَّ دم أخيك، قال: وكان ابن الدُّمَيْنة قد قال يهجوهم:
وطئتُ على أعناقِ قيسٍ فما شكتْ ... هواني ولا أحفَى محرّكها نَعْلِي
وقيسٌ كثَعْل العنْز لم أرَ مِثلَه ... أذلَّ ولا أخفَى مكاناً من الثَّعْلِ
قال مصعبٌ: فخرجت وأنا لا أعرف ابن الدُّمَيْنة وكان ينزل تبالةَ فلقيتُ رجلاً من بني نمير يريد تبالة فقال: ويحك يا مصعب من تريد؟ قلت: ابن الدُّمَيْنة أقتلُهُ، قال: لست من رجاله، قلتُ: عليَّ ذاك ولكن لستُ به عارفاً، فقال النّميريّ: فأنا أدخل السُّوق واتبعني فأوَّل من تراني أعانق فهو ابن الدُّمَيْنة فدونكه إن كان عندك خيرٌ، قال: فدخلنا السوق وكان أوَّل من لقينا فعانقه النّميريّ وتأمَّلته فإذا هو أحسن رجال العرب وأجملهم وأفصحهم، فلمَّا رأيته هبتُه ثمَّ إنِّي تحاملت فأضربه بسكين كانت معي وقد أخذت بمنكبه فأمسكني النَّاس وأخذوا السكين من يدي فأرسلت ثيابي في أيديهم وأخذت شفرة من قصاب فأدركته وقد كاد يدخل منزله فأضربه بالشفرة فما فارقته أغلغلُها في جوفه وقد غابت إلى النّصاب ثمَّ تركتها في جوفه وقد غابت وخرجت أعدو إلى دارٍ فدخلتها وأخذوني منها وحبسني السلطان بتبالة، ولبث ابن الدُّمَيْنة ليلة ومات فخشيت أن أُقتل به فكتبت إلى بني عمِّي من الحبس:
إذا نبحتْ كلابُ السّجن ليلاً ... هفا قلبي وهشَّ لها فؤادي
طَماعةَ أن يدقَّ السّجنَ قومي ... وخوفاً أن تُبيِّتَني الأعادي
فما ظنِّي بقومي ظنّ سَوءٍ ... ولا أن يُسلموني في البلادِ
وقد جدّلتُ قاتلَهم فأمسَى ... يمجُّ دمَ الوتين على الوسادِ
فلمَّا انتهى هذا الشعر إلى قومي طرقوني ليلاً فكسروا الباب وأخرجوني وطُلَّ دمُ ابن الدُّمَيْنة.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هنا عدة صفحات لا تجد لها رقما لأنها موجودة بالكتاب الإلكتروني (الأصل) وليس في المطبوع (المنتخب) باختيار د: محمد علي دقة