أعرابيّ من ربيعة:
طلابُ العُلى بركوب الغررْ ... ولا ينفع الحذِرين الحذرْ
وقد يُنكبُ المرءُ من أمْنِه ... ويأمنُ مكروهَ ما ينتظرْ
ولمَّا التقتْ حلقاتُ البطان ... ودرَّ سحابُ الرَّدَى فاكفهرّْ
وأقبلَ والنَّقع بادِي القَتام ... من الشَّرِّ يومٌ شديدٌ شِمِرّْ
لبستُ لبكرٍ وأشياعها ... وقد حمِس النَّاسُ جلد النَّمرْ
فأوردتُهم مَورداً لم يكنْ ... لهم عنهُ إذ وردوهُ صدَرْ
فولّوا شلالاً ولا يعلمونَ ... أمرْخٌ خيامُهم أم عُشرْ
عباديد شتَّى أيادي سَبا ... يسوقهمُ عارضٌ منهمرْ
إذا الغرُّ روَّعه ذعرُهُ ... ثناه إلى الحربِ كهلٌ مِكَرّْ
فمن بين ثاوٍ بصُمِّ القَنا ... وآخر في قدِّه مقتشِرْ
وراضتْ ربيعةُ بِي صعبةً ... من الحربِ أحجمَ عنها مُضرْ
ومَن رامَ بالخفضِ نيلَ العُلى ... فقد رام منه مراماً عسِرْ
وما الحزمُ إلاَّ لمستأثِرٍ ... إذا همَّ بالأمرِ لم يستشرْ
وإنِّي لأصفحُ عن قُدرةٍ ... وأعذُب حيناً وحيناً أُمِرّْ
ويُعجم عُودي إذا رابَني ... من الدَّهرِ ريبٌ فلا ينكسرْ
وأجْزِي القُروض بأمثالها ... فبالخيرِ خيراً وبالشَّرِّ شَرّْ
لهذه الأبيات نظائر كثيرة إلاَّ أنَّها من النظائر الَّتي تتَّسع وشرطنا أن لا نورد ما كان كثيراً معروفاً إلاَّ القليل، فمن ذلك قوله: " طلابُ العُلى بركوب الغرر " أخذه أبو تمَّام فقال:
رَكوبٌ لأَثباج المتالف عالمٌ ... بأنَّ المعالي دونهنَّ المهالكُ
وأمَّا قوله: " وقد ينكب المرء من أمنه " البيت، فمنه أخذ الآخر فقال:
توكَّل على الرَّحمن في كلِّ حاجةٍ ... طلبتَ فإنَّ اللهُ يقضِي ويقدرُ
وقد يهلكُ الإنسانُ من وجه أمْنِه ... وينجُو بإذن اللهِ من حيثُ يحذَرُ
وقريبٌ منه:
أَلا ربَّما ضاقَ الفضاءُ بأهله ... وأمكنَ من بينِ الأسنَّة مخرجُ
ومثله:
كم هالكٍ وسطَ الفَضا ... ءِ وسالمٍ بين الأسنَّهْ
ومثله:
كم فرجةٍ مطويَّةٍ ... لك بين أثناءِ النَّوائبْ
وغنيمةٍ قد أقبلتْ ... من حيث تُنتظر المصائبْ
ومثله:
لا تجزعنَّ فربَّما ... جُرّ السُّرورُ من الهمومِ
واعلمْ بأنَّك إنْ صبرْ ... تَ على صراطٍ مستقيمِ
ومثله:
قد يصحّ المريض من بعد سُقم ... ويُعافَى ويهلك العُوَّادُ
ويُصادُ القطا فينجو سليماً ... بعد يأسٍ ويتلفُ الصيَّادُ
وقريب من هذا المعنى وليس هو من المتقدّم:
كم من عليلٍ قد تخطَّاه الرَّدَى ... فنجا وماتَ طبيبُهُ والعُوَّدُ
ونستقصي هذا المعنى في موضع آخر.
فأمَّا قوله: " إذا الغرّ روَّعه ذعره " البيت، فقد أخذه البحتري فقال:
يُهالُ الغلام الغِرّ حتَّى يرُدَّه ... إلى الهولِ من مكروهها الأشيبُ الكهلُ
ومثله لآخر:
لعمرك للشبَّانُ أسرعُ غارةً ... وللشِّيبُ إنْ دارتْ رحَى الحرب أصبرُ
والبيتان المتقدمان في هذا المعنى أتمّ وأجود.
وأمَّا قوله: " ومن رام بالخفض " البيت، فمثله لآخر وجوَّد:
ليس للخفض غير منخفض الهمَّ ... ةِ تُرضيه لامعاتُ السَّرابِ
والفتَى باركٌ بأفنيةِ المو ... تِ وفوقَ الأكوار والأقتابِ
وأمَّا قوله: " وما الحزم إلاَّ لمستأثر " البيت، فمثله لآخر:
وما العجز إلاَّ أنْ تشاور عاجزاً ... وما الحزم إلاَّ أنْ تهمَّ فتفعَلا
ومثله:
إذا همّ ألقَى بين عينيهِ عزمَهُ ... ونكَّبَ عن ذكر العواقب جانبا
وهو كثير جدّاً.
فأمَّا قوله: " وإنِّي لأصفح عن قدرة " البيت، فقد أخذه أبو عليّ البصير أخذاً قبيحاً فقال:
وإنِّي ألِينُ لمَن رامَني ... بلينٍ وأحْلُو وطوراً أُمِرّْ
أعرابيّ:
وإنِّي وعمرو يومَ برقة منشِد ... على كثرةِ الأيدي لمُؤتسِيانِ
أذقْنا وذُقْنا بالقَنا جُرعَ الرَّدَى ... فأكرِمْ بنا صبراً على الحدثانِ
كلانا وَقور القلب في مستقرّه ... إذا طاشَ قلبُ المرءِ بالخَفَقانِ
إذا همَّ أنْ يلوِي أمَلْتُ عِنانَه ... وإنْ رُمتُ أنْ ألْوي أمال عِناني
أعرابيّ:
سرت نحوي عقاربه وليست ... بضائرة الدَّبيب ولا السّمام
ليبعثَني على عِرض حلال ... وأبعثَه على عرضٍ حرامِ
منه أخذ عليّ بن الجهم قوله:
يُبيحك منه عِرضاً لم يصُنْه ... ويرتع منك في عِرضٍ مصونِ
أعرابيّ:
بكى صاحبي لمَّا رأى الموتَ فوقَنا ... مظلاّ كإظلالِ السَّحاب إذا اكفهرّْ
فقلتُ له صبراً جميلاً، فإنَّما ... يكونُ غداً حسنُ الثَّناءِ لمن صبرْ
هذا مثل قول امرئ القيس:
بكَى صاحبي لمَّا رأَى الدَّربَ دونَه ... وأيقنَ أنَّا لاحقانِ بقيصَرَا
فقلتُ له لا تبكِ عيناكَ إنَّما ... نُحاولُ ملكاً أو نموتَ فنُعذرا
أعرابيّ:
هلْ خنتُ سرّاً أمينٍ كانَ يأمَنُني ... أمْ هلْ سمعتِ بسرٍّ كانَ لي نُشِرا
أمْ هل تلومنَّ أقواماً إذا نزلوا ... أم هلْ تقولنَّ منهم سائلٌ أُسرا
نقريهم الوجهَ ثمَّ البذلَ نتبِعه ... لا نترك الجهدَ منَّا قلَّ أو كثُرا
قوله: " نقريهم الوجه " يقول: نلقاهم بالبشر وهذه استعارة حسنة طريفة. ولشعراء العرب وغيرهم من المولّدين في هذا المعنى شعر كثير قد كنَّا ذكرنا منه شيئاً ونذكر ها هنا شيئاً آخر وبعد هذا الموضع إن شاء الله أشياء أُخر لأنه كثير متّسع، فمن ذلك قول عمرو بن الأهتم المنقريّ:
ومُستنبِح بعد الهدوءِ دعوتُهُ ... وقد حانَ من نجم الشِّتاءِ خفوقُ
يعالجُ عِرنيناً من القرّ بارداً ... تلفُّ رياحٌ ثوبهُ وبروقُ
أضفتُ فلم أُفحشْ عليه ولم أقلْ ... لأحرمهُ إنَّ المكانَ مضيقُ
وقلتُ لهُ أهلاً وسهلاً ومرحبَا ... فهذا مبيتٌ صالحٌ وصديقُ
وضاحكتُهُ من قبلِ عرفانيَ اسمَهُ ... ليأنسَ إنِّي للكَسيرِ رفيقُ
وقمتُ إلى الكُوم الهواجدِ فاتَّقتْ ... مقاحيدُ كُومٌ كالمجادلِ روقُ
بأدماءَ مِرْباع النِّتاجِ كأنَّها ... إذا أعرضتْ دون العِشارِ فَنيقُ
بضرْبةِ ساقٍ أو بنجلاءَ ثرَّةٍ ... لها من أمام المنكبَيْن فَتيقُ
وقامَ إليها الجازرانِ فأوْفَدا ... يُطيران عنها الجلدَ وهيَ تفوقُ
فباتَ لنا منها وللضَّيف مَوْهنا ... شواءٌ سمينٌ راهنٌ وغبوقُ
وباتَ له دون الصَّبا وهْيَ قرَّةٌ ... لِحافٌ ومصقولُ الكساءِ رقيقُ
وكلُّ كريمٍ يتَّقي الذَّمَّ بالقِرَى ... وللخيرِ بين الصَّالحينَ طريقُ
لعمركَ ما ضاقتْ بلادٌ بأهلِها ... ولكنَّ أخلاقَ الرِّجال تضيقُ
ومن هذا المعنى قول الآخر:
لمْ تعلمِي يا قرَّةَ العَين أنَّني ... أُضاحكُ ضَيفي قبل ردَّ سلامهِ
وأُخرج عن بيتي كريمةَ قومها ... لأُهملهُ في البيتِ عند منامهِ
على الحالَتَين في مصيفٍ مصمّم ... وقرّ شتاءٍ يرتَمي بسهامهِ
ومثله للرَّاجز:
أَبسطُ وجهي للضُّيوف النُّزَّلِ ... والوجه عنوانُ الكريم المفضلِ
ومثله:
ولستُ مقطِّباً وجهي إذا ما ... أتاني الضَّيفُ في اللَّيل المطيرِ
ولكنِّي أُضاحكه وأُثني ... عليه وإنَّني عينُ الفقيرِ
ومثله:
إذا ما أتاني الضَّيفُ واللَّيل مطبقٌ ... ونَوْء الثُّريَّا ذائب يتحلّبُ
تلقَّيتهُ بالبشر قبل نزوله ... وآثرتُهُ بالقُوتِ والعامُ مُجدبُ
ومثله:
كأنَّكِ لمَّا تعلَمي كيف شِيمتي ... إذا ما أتاني الضَّيفُ واللَّيل أليَلُ
ألستُ ضحوكَ السِّنّ والنَّار مُبكياً ... رقاب المهارَى صائحاً يتبلَّلُ
ومثله:
أُضاحكُ الضَّيفَ وسيفي في يدي ... لساقٍ كوماءِ النّجاء جلعدِ
ومثله:
أُضاحكُ ضيفي قبلَ إنزال رَحْله ... ويُخصبُ عندي والمحلُّ جديبُ
وما الخصبُ للأضيافِ أن يكثُر القِرى ... ولكنَّما وجه الكريم خصيبُ