٢ رواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه – باب علامة الحب في الله الفتح ١٠ / ٥٥٧ ح ٦١٦٨ – ٦١٧١. ٣ لقد صدق البغوي – رحمه الله – في هذا الوصف الدقيق لعصره – القرن الخامس – الذي يعتبر الحد الفاصل بين عصرين: عصر ازدهار العلوم الإسلامية والحضارة الإسلامية – ذلك العصر الذي تُوِّج بأهل القرون المفضلة – وعصر الجمود وبداية الانحطاط الذي ران على الأمة في الأعصار المتأخرة، ففيما قبل هذا القرن كانت الدالة لأهل السنة على أهل البدع والأهواء، وكانت العلوم الإسلامية عموماً، وعلوم السنة النبوية خصوصاً تنمو وتزدهر، حتى حلَّ منتصف القرن الرابع وبدأت فيه سيطرة أهل البدع على مقاليد أمور الأمة، إذ سيطر بنو بويه الروافض على بغداد، والعبيديون الباطنيون على شمال أفريقيا ومصر والشام والحجاز انظر: سير أعلام النبلاء ١٥ / ١٦٤، والصليحيون الإسماعيلية على اليمن، أظهر أهل البدع والأهواء رؤوسهم، وخرجوا من جحورهم، ودالت الدولة لهم، وضيقوا على أهل السنة وآذوهم وما فتنة البساسيري هلك سنة ٤٥١ هـ في بغداد وانتفاش الأشاعرة والصوفية برئاسة ابن القشيري ٥١٤ هـ على أهل السنة الذين كانوا يلقِّبونهم بالحنابلة ما كان إلا نموذجاً لبداية عصر سيطرة أهل الزيغ والضلال على مقاليد الأمور في الأمة الإسلامية، وحتى يتم لهم ما يريدون آذوا العلماء وأبعدوهم عن قيادة الأمة، ولذلك انتشر الجهل وعم الفساد، فجمدت العقول والأفكار عن التجديد والابتكار، وهذا عين ما أراده هؤلاء الضلاَّل ومن وراءهم من المفسدين في الأرض. ولهذا قال الحافظ الذهبي في نهاية الطبقة التاسعة في رسالة "ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل": "ومن هذا الوقت تناقص الحفظ وقلَّ الاعتناء بالآثار، وركن العلماء إلى التقليد، وكان التشيع والاعتزال والبدع ظاهرة بالعراق، لاستيلاء آل بويه ثَمَّ، وبمصر والشام والمغرب لاستيلاء بني عبيد الباطنية". وقال في آخر الطبقة العاشرة: "وكانت السنة قائمة الدولة بالأندلس وبخراسان وقلَّ أمرها وضعف بمصر والشام والمغرب والعراق، وما ذلك إلا لظهور دولة الشيعة والعبيدية فلله الأمر جميعا". لقد كان القرن الخامس حقاً بداية عصور الجمود العلمي والانحطاط الفكري للأمة، فسيطر عليها أعداؤها من يهود ونصارى ومجوس بواسطة طابورهم من أهل الأهواء والبدع الذين كانوا ينخرون في جسم الأمة كما تنخر السوسة في جذور الشجرة ثم تطيح بها فجأة، ولا أدل على ذلك من وقوف هذا الطابور صراحة ودون مواربة إلى جانب أسيادهم من النصارى عبدة الصليب عندما اجتاحوا الديار الإسلامية في هذا القرن، وكانوا قد مهدوا لذلك بنشر الجهل والفساد في الأمة، وذلك بإبعاد علماء السنة المخلصين عن قيادة الأمة وتنويرها بالعلم الصحيح، وهكذا في كل عصر لا يسمح أهل الضلال والزيغ لأمَّة أن ترى النور على يد علمائها المخلصين؛ لأن ذلك يؤدى إلى توعية الأمة بأعدائها الحقيقيين وتحذيرها منهم، لتقوم الأمَّة بعد ذلك بوجوب الأمر بالمعررف والنهي عن المنكر، فتقضي على أهل البغي والفساد، وهذا ما لا يريده ولا يطيقه رؤساء الضلال والفساد، فرحم الله الإمام البغوي فقد تفطن لذلك الداء وتلك العلة التي تشتكي منها الأمَّة، فلجأ للعلاج الناجع والدواء الناجح وهو نشر العلم وإحياء السنَّة، فقال رحمه الله: "أردت أن أجدد لأمر العلم ذكراً لعله ينشط فيه راغب متنبه، أو ينبعث له واقف متثبط".