يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه، فلم يقرعهم بعجزهم، وينقصهم على نقصهم حتى تبين ذلك لضعفائهم وعوامهم، كما تبين لأقويائهم وخواصهم، وكان ذلك من أعجب ما آتاه الله نبيا قط، مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات١.
ذلك هو رأي الجاحظ في إقامة الحجة على وقوع الإعجاز بالقرآن... وهو رأي -كما ترى- تقوم بين يديه أدلة قاطعة... وإن أكثر الذين أقاموا الحجة على إعجاز القرآن من هذه الوجه، إنما نظروا إلى رأي الجاحظ هذا، واعتمدوا عليه، وداروا حوله ... ومنهم "الباقلاني" في كتابه "إعجاز القرآن"... والزركشي في كتابه "البرهان في علوم القرآن"... وغيرهما ممن كان لهم رأي في إعجاز القرآن!!.
الجاحظ ووجوه الإعجاز:
أما عن رأيه في وجوه الإعجاز التي كان بها القرآن معجزا، فهو الرأي الذي ذهب إليه "الباقلاني" من بعده، و"الجرجاني" كذلك... وهو "النظم"، الذي انفرد به القرآن، في صياغة أساليبه، صياغة تنتظم بها المعاني انتظام الروح في الجسد.
والجاحظ كما نعرف، إمام من أئمة البلاغة، وعلم مفرد في أساليب البيان، وذواقة لم تعرف العربية مثيلا له في التعرف على طعوم الكلام، واختلاف مذاقاته! وما تعرف اللغة العربية أديبا طاوعه قلمه فتحرك في كل اتجاه، وجال في كل حلبة، ونازل في كل ميدان، مثل هذا القلم الذي اشتملت عليه يد الجاحظ.
وإذا كان رأي الجاحظ، في وجه الإعجاز في القرآن، هو ذلك النظم الذي انفرد به القرآن في تصوير معانيه وإخراجها على تلك الصورة العجيبة من النظم، فإن ذلك لم يكن رأيا صريحا للجاحظ، وإنما كان عن طريق الاستدلال، والاستنتاج، لمقولاته التي حملناها هذه المحاميل، وفهمناها على هذا الوجه من الفهم، وإلا فإن الجاحظ لم يقل قولا صريحا مواجها، في الجهة أو الجهات التي جاء منها الإعجاز في القرآن!!
كان الجاحظ ممن يحفلون بالصياغة اللفظة، وممن يجعلون لصفاء العبارة ونضارتها شأنا في البلاغة، وتمكين المعنى من أن يعرض أروع عرض، وأبرعه، وأكمله.
وكانت الظاهرة الغالبة في تلك الفترة المعاصرة للجاحظ، هي الاحتفال بالمعنى، وكدّ الذهن له، والجري وراءه... إذ كانت آثار العقل اليوناني في الفلسفة، والعقل الهندي والفارسي في الحكمة، وضرب الأمثال، قد أخذت تنتقل إلى اللغة العربية، وتؤثر في النفس هذا التأثير الذي أقام المذاهب الكلامية والفلسفية عند كثير من الجماعات والأفراد... وكان من ذلك أن جرى الناس وراء المعاني يلتقطونها في