وهى الفعل لازم لنفى الغاية وهى الحكمة، ونفى قيام الفعل والحكمة به نفى لهما فى الحقيقة، إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته، وهذا لازم لمن نفى ذلك، ولا محيد له عنه وإن أبى التزامه، وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حق، ولازم الحق حق كائناً ما كان
والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءَهم- لكمال ميراثهم لنبيهم- آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة فى أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهى، وصدقوا بالوعد والوعيد، فآمنوا بالخلق الذى من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة، وبالأمر الذى من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب، فصدقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفى لوازمهما كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر، وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة فى هذا الميراث النبوى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا فى قلوب خواص الخلق ولب العالم، وليس الشأن فى الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال، فإن القدرية تؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الدينى ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها وهذا حقيقة إنكار القضاءِ والقدر. وكذلك الحكمة، فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى، وإرادته لمراده تعالى، فهى عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقة ويثبتون حكمة زائدة على ذلك، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ويجعلونها مخلوقاً من مخلوقاته كما قالوا فى كلامه وإرادته فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ الحكمة وجحدوا معناها وحقيقتها. وكذلك الأمر والشرع، فإن من أنكر كلام الله وقال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، ولا يحب شيئاً ولا يبغض شيئاً، وجميع الكائنات محبوبة له وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب، ولا فرق فى نفس الأمر بين الصدق